تصدير الرأسمالية الأميركية
ربما تنجح بعض الشركات الاستشارية الأجنبية في تقديم بعض التطبيقات للتحسين، ولكن لن تستطيع أبداً، أن تفهم عمق البناء الاجتماعي في دول الخليج والسعودية بالذات
يطلق على الشخص الذي يسرق عمل وأفكار الآخرين “حرامي”، فإذا أعاد تدويرها، ورتبها في خطوط ملونة وقدمها بكل مكر باسمه يصبح “حرامي ومحتال”. فإذا حاولت التلميح لرئيسك بهذا الأمر، فقد تُعاقب بقسوة تصل إلى تجميد مستقبلك الوظيفي.
لأن من يفعل ذلك في نظرهم “مستشار إداري” وظيفته أن يعلمك كيف تفكر. فيراقب طريقة عملك، ويدون جميع المعلومات منك، ثم يقوم بتحليل كمي للحسابات والبيانات بطريقة جذابة، بعد إعادة تدويرها، وفي النهاية يقدمها لرئيسك باللغة الإنجليزية.
في سنوات الكساد طرأت على “جيمس ماكينزي” فكره جهنمية، تهدف إلى تقليص حجم شركته، بعد أن عانت من خسائر فادحة وكاد أن يخسرها. بدأت الفكرة حين أخذ يعيد جداول حساباته، مطوراً طريقة حسابية تركز بشكل كبير على التكلفة والربح فقط، حين طبقها في 1935، على “شركة مارشال فيلد” لمتاجر التجزئة، انتعشت المتاجر وعادت تربح من جديد، ولكن ذلك الربح، جعل 1200 موظف يخسرون وظائفهم. لتخسر على أثرها إدارة الشركة ولاء بقية الموظفين داخلها. وبعد الحرب العالمية الثانية، انتعشت شركة ماكينزي واشتهرت، بعد أن قدمت لشركات عديدة، كانت تحتضر آنذاك فكرتها القبيحة، التي تهدف إلى تجويع الإنسان لتوفير المال.
ولأن أغلب موظفي ماكينزي كانوا من الشباب آنذاك، ساهمت الشركة بإنشاء برنامج ماجستير يرتكز على “فكرة” مؤسس الشركة، لإدارة الأعمال بجامعة هارفارد. لتصبح هارفارد فيما بعد علامة تجارية ومعيارا للموثوقية، أغرى اسمها العديد من الشركات العالمية، لاستقطاب وتوظيف خريجيها. مما ساعد على بناء شبكة لا مثيل لها من الأصدقاء في عالم (رجال الأعمال)، فانتشروا حول العالم، حتى وصل عدد كبير منهم إلى مناصب تنفيذية، مطبقين نفس الفكرة القبيحة. لتساهم بذلك ماكينزي على تصدير الرأسمالية الأميركية إلى جميع أنحاء العالم.
فإذا سجلت الشركة في تاريخها نجاحا في ابتكار وتسويق بعض الأفكار، فهذا لأن رجالاتها المنتشرين حول العالم يحترفون بيع وتدوير أفكار عملائهم السابقين لعملائهم الجدد، والتي يحتفظون بها في حقيبة تجارية خاصة. فقوة الشركة لا تكمن في ابتكار أفكار إبداعية، على قدر ما هي عملية “مكر واحتيال”، في استخدام أفكار الآخرين. وتحصيل رسوم باهظة عليها في كل مرة.
كما أن أغلب ما تطرحه من نصائح يعد غطاء للمديرين التنفيذيين – تساعدهم على ترتيب الحجج المقنعة لتبرير إخفاقهم، أو إخفاء بصمات فسادهم. فأشهر وأسرع نصيحة ممكن أن تقدمها (خفض التكاليف وتسريح العمال)، مقابل حرصها الخبيث في نفس الوقت، على المحافظة على زيادة رواتب المديرين التنفيذيين.
ومع كل تلك السنوات من الخبرة، والمناورات الكلامية لصناعة الربح وجني الفوائد، إلا أن الشركة لم تستطع إخفاء ارتباط اسمها بالفشل والإفلاس الكبير اللذين تسببت فيهما لشركات ضخمة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، في بداية التسعينات، تهورت ماكينزي وقدمت نصيحة لشركة الخطوط الجوية السويسرية لتطبيق “إستراتيجية الصياد”. ففشل برنامج التوسع الكبير فشلا ذريعا، واضطرت الشركة إلى إعلان إفلاسها في 2001.
وفي منتصف التسعينات، نصح مستشاري ماكينزي بنك “مورغان”، بالتقليل من نشاطه الاقتراضي، وحين طبق النصيحة، استولى بنك “شيس” المنافس، على أكبر حصة في السوق الائتمانية، ليحقق أرباحا مذهلة، انتهت بشراء بنك مورغان.
وعلى الرغم من علاقة ماكينزي الوثيقة بشركة الطاقة التجارية “إنرون”، والتي ساهمت عمليا، في تأسيسها وتعتبرها من أكبر أصدقائها وعملائها، حتى الرئيس التنفيذي لشركة إنرون، “جيف سكيلنج”، كان أحد خريجي ماكينزي القدماء، ومع ذلك لم يتوقع مستشارو ماكينزي، بحدوث أزمة مالية ضخمة عام 2007، بالرغم من علاقاتها الوثيقة بعالم البنوك والمصارف في جميع أنحاء العالم. ليصبح انهيار إنرون أبرز وصمة عار ارتبطت بشركة ماكينزي.
وعندما خسرت جنرال إلكتريك مليار دولار، قبل الأزمة المالية كشف رئيسها التنفيذي “جيف اميلت” لوسائل الإعلام، أن الشركة استجابت لنصيحة من ماكينزي.
حتى لو افترضنا أنه مستحيل أن تكون الشركة مسؤولة عن كل هذه الإخفاقات – لأن صلاحياتها لا تتعدى المشورة، وليس اتخاذ القرارات. لا يمكن أن نتظاهر بأن كل هذا الفشل كان بمحض الصدفة. والأمر الذي بات يتكرر كل مرة تفشل نصائح الشركة، تصريح مستشاريها للإعلام بأن عملاءها لم ينفذوا المشورة بحذافيرها!
وعلى الرغم من نفوذهم في سوق إدارة الأعمال، إلا أن حقيقة استخدام ماكينزي لمستشارين خفيين بات جلياً للجميع، حيث تقتصر مهمتهم على تقديم نصائح سيئة، من أجل التخريب على الشركات التي تتنافس مع الشركات التي يعملون معها.
وأكثر الدروس المستفادة من الانتكاسات التي سببتها الشركة، تدل على أنها لا تكترث إلا بالمال، لذلك لم تتمكن من فهم عمق المشكلة في تلك الشركات. وإذا احتجنا أن نتوسع ونعرف تأثير مشوراتها على حكومات الدول العربية، فهذا سيحتاج إلى مقال آخر تفصيلي، قد نسرد فيه قصص فشلها الذريع ومحاولاتها لتدميرها اقتصاد دول مثل البحرين ومصر وليبيا واليمن.
ربما تنجح بعض الشركات الاستشارية الأجنبية، في تقديم بعض التطبيقات للتحسين، ولكن لن تستطيع أبداً، أن تفهم عمق البناء الاجتماعي في دول الخليج والسعودية بالذات، لأن نتائج تطبيقاتها ترتكز دائماً على نفس الفكرة القبيحة “تدمير الإنسان لتوفير المال”.
إرسال التعليق