شمال إفريقيا.. الصحراء خلفه والبحر أمامه بين ثورات هادئة وأخرى عاصفة: كيف سيكون المستقبل؟

 عمار عبيدي

مقدمة
منطقة مريضة هذا هو الوصف العلمي لما يحدث في شمال إفريقيا وقد يكون كل الشرق الأوسط مشمولا بهذا الوصف؛ وهذا الجزم بوجود السقم ليس متوفرا في تحديد الأسباب بدقة فكُلّ يفسر حسب خلفياته وهواه لكن توصيف الحالة قد يكون سببا في معرفة ماذا يحدث ؟ والى أين تسير الأوضاع؟ وما هي سيناريوهات المرحلة المقبلة؟ لكن قبل ذلك ما هي الأطراف الفاعلة الآن في منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي أو الإسلامي؟ وما هي مجمل القضايا الحساسة التي تؤرق المنطقة وتصنع مستقبلها؟ ثم ما هو دور مركز القرار الدولي خصوصا الولايات المتحدة وفرنسا القريبتان جداً من المنطقة؟
وطرح أسئلة مثل هذه لا تأتي من فراغ بل لأن كل العالم ينظر إلى شمال افريقيا كما ينظر لبقية الدول العربية -ربما ليس بنفس درجة الاهتمام- لكن هناك توجه غربي للاهتمام بهذه الرقعة الجغرافية التي قال فيها كريستيان ساينس مونيتور الباحث في مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى “ينبغي على الغرب أن يركز على شمال افريقيا”.
طبعا بلدان شمال إفريقيا هي جملة العواصم الممتدة من القاهرة مرورا بطرابلس وتونس والجزائر وباماكو وصولا إلى الرباط ونواكشوط غير أنه من المهم الإشارة إلى أنه لا يمكن اعتبار مصر ضمن نسيج هذه المنطقة بل هي وضعية مختلفة تماما لأسباب عديدة أولها ارتباطها بشكل أكبر بوسط المنطقة العربية زيادة على اختلاف الخصائص الاجتماعية والسياسية مع بقية بلدان شمال إفريقيا لذلك فإن مصر خارج هذا البحث بحكم ما تقدم وبحكم أهميتها التي قد تتطلب بحثا منفردا أما موريتانيا فهي خارج التغيرات التي شهدتها المنطقة خلال أحداث الربيع العربي وهو ما يجعل منها مبحثا مختلفا عن بقية البلدان (تونس والمغرب والجزائر وليبيا ومالي) التي تأثرت مباشرة وبشكل غير مباشر بالتغيرات التي انطلقت من تونس في 2011.
ورغم أن مالي تميل كثيرا لمنطقة وسط إفريقيا إلا أن الأحداث التي مرت ببلدان المغرب العربي وشمال إفريقيا أثرت في باماكو تأثيرا مباشرا ليس على مستوى الحراك الجهادي فقط بل أيضا على مستوى حركات التحرر الوطني مثل الحركة الوطنية لتحرير أزواد؛ التي كان الربيع العربي أيام ربيعها أيضا اذ تعاظم نشاطها وأصبحت طرفا مهما في مالي وفي المنطقة.

الجزائر.. الجنرالات والربيع
التاريخ المعاصر للجزائر كانت بدايته محاولات جادة للخروج من وطأة النظام الدولي عبر تركيز نواة اقتصادية صلبة لكنها سياسيا بقيت منحازة للمعسكر الشرقي رغبة في الهروب من هيمنة المعسكر الغربي لكن ذلك لم يستمر طويلا فسرعان ما ساهمت إرادة الهيمنة على دواليب السلطة في إعادة عداد التنمية الاقتصادية إلى نقطة الصفر مما تسبب في ركود على كافة المجالات.
في 5 أكتوبر 1988 خرج الجزائريون منتفضين ضد أحوالهم المعيشية المتردية لكن بطشت السلطة واستخباراتها، كعادة أنظمة الاستبداد العربي بشعبها الغاضب. قتل يومها ما يقارب 500 شخص غير أن الغضب اتسع ووصلت الأمور إلى فشل في إدارة الأزمة سرعان ما انصاعت لها السلطة السياسية. “إنه الربيع العربي الذي لم نره على شاشة «الجزيرة»، إذ لم تكن هناك «جزيرة» يومها. أخباره احتلت مساحات صغيرة في صحفنا! في النهاية اختار رئيس الجزائر وقتذاك الشاذلي بن جديد السلامة له ولشعبه، وسمح للتاريخ بأن يمر، وأعلن إصلاحات دستورية، تعددية سياسية وانتخابات حرة، وأنهى عهد الحزب الواحد، ذلك النظام البغيض الذي اختارته ولا تزال الجمهوريات العربية كي تحكم به «الطائفة المتغلبة»، ولكن مستخدمة مصطلحات حديثة وتقدمية: «الاتحاد الاشتراكي»، «جبهة التحرير الوطني»، «الجبهة التقدمية»، «المؤتمر الشعبي العام»، بل تردت صور الديموقراطية حتى رأينا «قائمة بتوع الرئيس». المهم أن تكون ديموقراطية اسمية يمكن التحكم بنتائجها عبر انتخابات صورية وإعلام كاذب. المشكلة أنهم فشلوا في الإدارة على رغم تمتعهم بكل الصلاحيات، تشريعية وتنفيذية، انخفض الإنتاج وتراجع الاقتصاد، وكذلك الخدمات والتعليم ومعه «جودة الحياة»، وكلما غضب بعض من الشعب اتهم بالخيانة أو العمالة والإرهاب.”
ذلك الربيع انتهى بنفس طرق نهاية الربيع العربي الحالي تم تنظيم الانتخابات فاز الإسلاميون فوقع الانقلاب عليهم بكل سهولة من قبل مجموعة الجنرالات ودخلت البلاد نفقا عسكريا مظلما لا تزال تقيم فيه إلى حدود الساعة. قد لا “يتناطح عنزان” في اعتبار الجيش الجزائري وخصوصا المخابرات عاملا مهماً في تحديد هذا الوضع وما لحق به من أحداث في الجزائر لكن الأهم ان هذه المخابرات نفسها عامل أساسي في تحديد مستقبل المنطقة المغاربية كلها فالجنرال توفيق الذي شغل منصب مدير المخابرات الجزائرية DRS لمدة 25 سنة “اجتمع في نوفمبر 1998 بالوزير السابق للخارجية عبد العزير بوتفليقة في منزل فتيحة بوضياف أرملة الرئيس السابق للجزائر محمد بوضياف واتفقا على ان يكون بوتفليقة رئيسا للجزائر ويواصل الجنرال توفيق مهامه على رأس المخابرات التي أمسك بزمام أمرها منذ الانقلاب على الاسلاميين وحتى نوفمبر 2015 ”
لكن هل يمكن أن تصل اقالة الجنرال توفيق الى مرتبة الثورة الهادئة طبعا أحد المحددات الرئيسية للحكم هي خلفه الذي تولى أمر الجهاز الذي حكم الجزائر لسنوات ثم مدى قوة المجتمع المدني في فرض بدائل عن الخيارات العسكرية ثم بدائل عن الخيارات العائلية لتوريث سعيد بوتفليقة :
* أولا : هناك قناعة ان الرجل الذي تولى منصب الجنرال محمد مدين ليس سوى الجنرال عثمان ترتاغ أو كما يكنى بالجنرال بشير وهو الرجل الثاني سابقا بعد توفيق وله نفس صفات “سلفه”. حيث لا يوجد له سيرة ذاتية واضحة ولا صورة للرجل الذي تقول عنه مجلة ” Le jeune Afrique ” انه الرجل الغامض الذي ينحدر من الغرب الجزائري وهو مختص في اختراق الاسلاميين حسب نفس المصدر” وهذا الحديث ينفي كل النوايا الاصلاحية التي قد تتبادر لأذهان البعض.
* ثانيا : لا بد من القول ان الخلاف مع الجنرال توفيق ليس سببه ارادة للانفتاح لدى بوتفليقة وإنما هو بسبب ما قيل عن اعتراض مدير المخابرات عن خطة بوتفليقة لمواصلة الحكم في افترة القادمة لكن ذلك ليس بمعزل عن إرادة في الجزائر لتغيير الحكم والخروج من نُظم الحكم بحق عسكري إلى شبه حكم مدني حتى لو كان أساسه التوريث وتأبيد حكم المستبين.
ربما يرى البعض أن نية الإصلاح موجودة في قرار استبعاد الجنرال توفيق اذ أنه أُتبع بقرار آخر مهم وهو محاكمة الجنرال حسان (عبد القادر آيت عرابي) قائد فرقة مكافحة الإرهاب الرجل الذي تنتقده المعارضة الجزائرية بقولها “ظن بأنه يحيي ويميت”، بعد أن كان يصنع أجزاء من الكتائب الإسلامية المقاتلة في الجزائر خلال حقبة العشرية السوداء. وهو ما ينقله الباحث ياسين بودهان عن
مقربين” من الحكومة وعلى رأسهم سعداني، ومدير ديوان رئاسة الجمهورية أحمد أويحي أن هذه التغييرات التي طالت قطاع الاستخبارات تدخل في إطار تحديث الحياة السياسية، وتهدف إلى وضع حد لدور المخابرات النافذ في المشهد السياسي في البلاد. إلا أن الجزائريون بشكل عام، ومثلهم مثل الطبقة السياسية ينظرون بعين الريبة للأمر، ويعتقدون أنه مرتبط بصراع مصالح وبسط نفوذ حول السيطرة على البلاد.

وهذا الأمر قد يكون طرحا صحيحا نسبيا لكن ما يناقضه غياب محاسبة بقية الأطراف التي كانت فاعلة في الأزمة الجزائرية السابقة.

الانتخابات في الجزائر
مع بداية “الربيع العربي” توقع كثيرون أن تكون الجزائر ضمن الدول التي ستعيش حراكا اجتماعيا لافتا لكنها كانت “الاستثناء”. وإذا كانت الجزائر قد نجحت في تفادي الهبات الشعبية في فترة 2011، التي ينظر إليها عدد من المثقفين والنخب الجزائريين على أنه مؤامرة خارجية -أو هكذا روّجت وسائل الإعلام المحلية-، هدفها تفكيك الدول العربية وتجسيد مخطط الشرق الأوسط الكبير فقد عاشت البلاد على وقع أزمة حادة خلال السنة الماضية وخوف شديد خلال فترة ما قبل الانتخابات بسبب غموض الوضع ويصف الصحفي ياسين بودهان تلك الفترة بقوله “وفي ظل الوضع الحالي الذي تشهده الجزائر، فمن الواضح أن ترشح بوتفليقة لولاية رابعة لن يخدم الاستقرار في الجزائر، سياسياً كان أم اقتصادياً، لأن بوتفليقة في تقدير البعض قد أثبت فشله في هذه المجالات. فالفساد خلال فترات ولايته الثلاث بلغ مستويات قياسية، وهو الذي رصد أكثر من 600 مليار دولار على مدى 15سنة لتحقيق الوثبة الاقتصادية، لكن لا يزال 98 في المائة من الاقتصاد يعتمد حالياً على عائدات النفط فقط. وستستمر الحكومة في تطبيق سياسة شراء السلم الاجتماعي، ومن علامات ذلك وعود الحكومة خلال اجتماع الثلاثية الذي عقد في بداية الأسبوع الأخير من شباط/فبراير – والذي ضم ممثلين من الحكومة وأرباب العمل و “الاتحاد العام للعمال الجزائريين” – بزيادة أجور العمال في 2015 وهو ما اعتبره البعض مساومة وابتزاز للعمال. فهذا يعني أن الزيادة ستكون مقابل السلوك الانتخابي للعمال في انتخابات الرئاسة، وأن الزيادة مرتبطة باستمرار السلطة الحالية. وبترشح بوتفليقة فوتت الجزائر فرصة تاريخية لتحقيق تغيير سلمي وآمن للسلطة بالاستفادة من الظروف الإقليمية والدولية التي تشهد تغيرات عميقة لأنظمة الحكم. وأكثر من أي وقت مضى، يغلق هذا القرار استمرار المجال السياسي، ويخنق المعارضة، ويدعم الأحزاب الموالية للسلطة، ويشل البرلمان مما يمنعه من ممارسة دوره الحقيقي في رقابة الحكومة.”
ولقد تكرر نفس السيناريو على ثلاث دورات انتخابية من 2004 إلى حدود الانتخابات الفارطة حيث أحجم البعض من أكبر الأسماء في السياسة الجزائرية عن خوض الانتخابات بعد اقدامهم على خوض انتخابات 1999. والمعارضة الجزائرية سواء اليسارية أو الإسلامية تعاني من عجز ملحوظ نتيجة استفحال هاجس انتخابات 1988 ونتائجها التي أدت إلى مأساة انسانية للشعب الجزائري يصفها محمد العربي زيتوت بدقة فيقول “حربٌ خلّفت دمارا هائلا في كلّ مناحي الحياة…وقتلا لأكثر من مائتي ألف بشر كثيرا منهم أبرياء وقد قتلوا في مجازر مروّعة…
وتأثّر الملايين بالحرب القذرة، فأصيب البعض بأمراض مزمنة خاصّة المتعلّقة بالخوف والقلق…وآخرون تمّ اعتقالهم وتعذيبهم حتّى الموت…بينما تهجّر آخرون من قراهم ومدنهم…
وفي حين أنّ بعض المحظوظين تاهوا في الخارج، فإنّ آخرين غرقوا في أشياء أخرى بما فيها المفاسد التي عمّت، حتّى أنّ المخدّرات أصبحت تملأ الشّوارع ولم تستثنِ المدارس والبيوتات إلاّ ما رحم ربّك…
والأخطر من كلّ ذلك ضرب عقل و أخلاق الجزائريّين، الذين كانوا يعرفون بالشّهامة والمروءة والعزّة..، فإذا بكثير من النّاس استمرأت الذّلّ والخضوع وآخرون أصبحوا تجّار فواحش وأعراض فتخنّث الكثير من الذّكور وترجّلت نساء كثيرات…
الحكم بخمسة أعوام، هو محاولة لتخفيف الصّراع بين الأجنحة المتصارعة، ذلك أنّ التّهم الأولى التي نسبت لمن كان يظنّ أنّه”يحيي ويميت”، والمتمثّلة في “تشكيل مجموعات مسلّحة” و”استخدام السّلاح خارج القانون” كانت ستؤدّي به إلى حبل المشنقة، أو على الأقلّ إلى حكمٍ مؤبّد”.. لذلك فإن العارفين بالوضع الجزائري يؤكدون على أنه لا اليسار المعتدل أو الراديكالي ولا “الاسلاميون المعتدلون” بقادرين على تعديل كفة السياسة في البلد الذي يعاني وطأة الأجهزة العميقة ناهيك عن الإسلاميين الموصوفين بالتطرف مثل جبهة الانقاذ الممنوعة من ممارسة السياسة أصلا.

هل الجزائر متماسكة
يخفي الحديث عن سطوة الجنرالات وقوة الأجهزة الأمنية وضعا هشا فلقد كشف الجدل الذي تشهده البلاد منذ جويلية 2015 نقاشا ساخنا بشأن اللغة وعلاقتها بهوّية الجزائريين. وقد أُثير هذا النقاش في أعقاب قرار نورية بن غبريط وزيرة التربية استعمال اللغة “العامية” في التدريس خلال المراحل الأولى من التعليم الابتدائي”. وأكدت أن اللجوء إلى استعمال اللغة المحلية في المدارس لا يهدف إلى إزاحة اللغة العربية عن مكانتها كلغة رسمية في الجزائر، والتي يحميها الدستور منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1962. وفي الحقيقة فإن الجدل الذي أثير ليس مرده هذه الخطوة فقط بل مردها صراع أكبر تخفيه التركيبة السكانية للجزائر التي تصل نسبة الأمازيغ فيها إلى قرابة 30 بالمائة والذين أصبحوا ضحية سهلة لموجات التنصير والتغريب التي تقودها الحملات الأوروبية خلال السنوات الماضية زيادة على الآثار الثقافية لفترة الاستعمار والتي خلفت تشوها كبيرا أصاب الهوية العربية الإسلامية للجزائر.
وفي الحقيقة تشهد كل بلدان شمال افريقيا طرحا لمثل هذه الاقتراحات التي تحاول تمييع الهوية العربية الإسلامية وطرح بديل جديد هو اللهجة العامية وعادة تقف النخب الفكرية الفرنسية وراء هذه المحاولات التي تبوء دائما بالفشل بسبب الرفض والمقاومة الشعبية من أغلبية السكان لكن ينتهز الانفصاليون مثل هذه المقترحات للمطالبة بأشياء أخرى مثلما فعلت منطقة القبائل التي طالبت بحكم ذاتي في الجزائر.
وفي الحقيقة لا بد من الإشارة إلى أن وضع القبائل يعد من أشد القنابل الموقوتة قابلية للانفجار بفعل تحريك القوى الخارجية للملف الذي تدعمه أذرع المركز حتى تجد نقاط ارتكاز ومرابط في المنطقة مثلما حصل في المشرق العربي حين تم اعتماد الأقليات الكردية والتركمانية لتنفيذ أدوار تخدم أجندة المركز في سوريا والعراق وحتى تركيا. وقد يبدو الوضع الجزائري أشد استقرارا لكن الشعب الجزائري الذي اختزلت تضحياته ضد الاستعمار معاني المقاومة والتضحية لا يمكن توقع ردّات فعله تجاه حالة القمع والمناخ السياسي المغلق الذي تعيشه البلاد زيادة على تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

ليبيا والحراك الإسلامي
حسب الإحصائيات “تبلغ مساحة ليبيا نحو 700,000 كيلومتر مربع ويقطنها نحو 5.8 مليون نسمة، منهم 1.5 مليون من الأجانب. ويتبع سبعة وتسعون بالمائة منهم المذهب السني، بينما ينتمي البقية إلى كنائس مسيحية مختلفة. ومن بين المدارس الفقهية في الفكر الإسلامي تهيمن المدرسة الفقهية المالكية على سكان ليبيا (مثل بلدان أخرى في شمال أفريقيا).”
قبل الثورة كانت تحت حكم ملكي وتاريخ ليبيا الحديث لا يذكر أشياء كثيرة عن فترة الملك إدريس السنوسي التي يطالب الباحثون اليوم بإعادة كتابة تفاصيلها لأنها لم تكن بذالك السوء الذي طرحه نظام معمر القذافي، وتاريخ السنوسي ليس غامضا بل يذكر المؤرخون أنه كان إلى جانب المقاومة التي قادها الشيخ المجاهد عمر المختار رحمه الله. فبعدما استولت القوات الإيطالية على العاصمة طرابلس خلال حربها مع الدولة العثمانية عام 1911، اشتعلت المقاومة الليبية للاحتلال الإيطالى بشكل تلقائي وسريع، ولكن الصراع انتهى بتقويض المقاومة وإعدام الشيخ عمر المختار عام 1931، وأعلنت إيطاليا اسم “ليبيا” كاسم رسمي لكامل أراضى المستعمرة عام 1934، وهو الاسم الذى كان الإغريقيون يطلقونه على كامل أراضي شمال إفريقيا عدا مصر. ولكن بعد هزيمة إيطاليا فى الحرب العالمية الثانية لم يعد لها وجود فعلي فى الأراضي الإيطالية، ولكنها كانت تتمتع بالسيادة قانونيا على كامل مستعمراتها – ومنها ليبيا – حتى تمّ توقيع معاهدة الصلح عام 1947، وهى المعاهدة التى تركت فيها أمر التصرف فى أراضيها ومستعمراتها السابقة للدول الأربع الكبرى التى وقّعت معها المصالحة، فوقعت برقة وطرابلس تحت السيادة البريطانية حتى 1951، وخضعت فزان للسيطرة الفرنسية، بينما أصدرت الأمم المتحدة قرارًا يقضى بأن تصبح “ليبيا” مستقلة قبل حلول جانفي عام 1952، وهو ما تحقق فى الـ 24 من ديسمبر عام 1951، أعلن الأمير محمّد إدريس السنوسي في مدينة بنغازي الاستقلال وميلاد الدولة الليبيّة كنتيجة لجهاد الشعب الليبي، وتنفيذاً لقرار هيئة الأمم المتحدة، وبناءً على قرار الجمعيّة الوطنيّة الصادر بتاريخ 2 ديسمبر 1950م.
وقد ظل السنوسي ملكاً على ليبيا حتى انقلاب في 1 سبتمبر 1969 قام به ضباط عسكريين بقيادة العقيد معمر القذافي فأطاحت بحكمه، وكان وقتها في تركيا للعلاج وتوجه لاحقًا إلى اليونان حيث أقام لفترة ثم انتقل إلى مصر برفقة زوجته الملكة فاطمة حيث حل في ضيافة الرئيس جمال عبد الناصر.

انقلاب ناعم وعهد خشن

عُرِف انقلاب القذافي باسم “ثورة الفاتح من سبتمبر” وقد كانت عملية الاستيلاء على السلطة سهلة حيث سيطر القذافي ومن معه على مبنى الإذاعة وحاصروا قصر السنوسي حتى سارع ولىّ العهد ومُمثّل الملك بالتنازل عن الحكم، وقد وجد هذا الانقلاب قبولاً وترحيبًا من قوى محلية وإقليمية ودولية كثيرة، وقابله البعض بحياد وفتور. طبعا لا تحتاج فترة حكم القذافي إلى جدل كبير حول فشله في إدارة البلاد التي أصبحت بلا تعليم ولا مقومات أساسية للدولة مقارنة ببقية البلدان في المنطقة حيث تميزت تونس والجزائر والمغرب بوجود مؤسسات حكومية قوية وتعليم متطور . بينما سعى القذافي إلى تشريع نظريات سياسية ساذجة ليس لها مقوم علمي بل تسير حسب أهوائه .
لقد “ابتكر القذافى ما أسماه بالنظام “الجماهيرى” الذى تتحلّل فيه السلطة المركزية ولا يتقيّد فيه الرئيس بأية سلطة مراقبة أو متابعة أو حساب، كما فكّك الجيش النظامى وأنشأ ما عُرِف بـ “الشعب المُسلّح” وحافظ فقط على عدّة كتائب عسكرية بقيادة بعض أبنائه لحمايته وحماية القصور والمؤسسات والأماكن التابعة للعائلة الحاكمة، وقد ضمّت هذه الكتائب الكثير من المرتزقة من الدول الإفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا.استمرت نزوات القذافى وتصرفاته الغريبة إلى جانب تقويضه لخطى التقدّم والتطوير على مستويات التعليم والصحة والاقتصاد، وتبديد ثروات الشعب الليبى على طموحاته ورحلاته وعلاقاته الخاصة والشخصية، كما مارس قدرًا ضخمًا من القمع والمصادرة بحق الشعب الليبى وصل به إلى إعدام المئات داخل إحدى الجامعات الرسمية فى ثمانينيات القرن الماضى.”

الثورة على العقيد

حينما هبت رياح التغيير والثورة على كل من تونس ومصر، أكد المراقبون والمحللون السياسيون أن ثروات ليبيا كفيلة بألا تجعل الشعب الليبي يثور، غير أن الليبيين أنفسهم كان لهم رأي آخر!. ولا شك في أن ثورة الليبيين على معمر القذافي قامت بعد معاناة وصبر على الظلم والاستبداد، وأنها نجحت بشكل أو بآخر في التخلص من رأس النظام المستبد، الذي كان سببا في تأخر البلاد وقمع العباد لعقود.
حيث “تصاعدت الاحتجاجات ضد النظام السياسي، وتحوّلت الاحتجاجات السلمية في ليبيا منتصف (فبراير) 2011 إلى مواجهات دموية بين النظام والثوار، على عدة جبهات ما بين الشرق والغرب، كاشفة الستار عن أسباب أخرى كانت تحت الرماد دفعت الليبيين لاختيار الثورة رغم الثروة، أبرزها الفساد في كافة المناحي، وعدم العدالة في توزيع الثروات، وحالة التخلف الذي تعيش فيه ليبيا رغم ثرائها بالنفط، وغياب المعارضة الحقيقية، وانسداد قنوات التواصل، فضلا عن “القمع الأمني” عبر اللجان الثورية، والذي امتدت أذرع قمعه إلى الخارج لتلاحق كل من يختلفون مع النظام، إلى الحد الذي دفع إلى وصف النظام الليبي بأنه نظام قمعي بامتياز داخليا وإرهابي خارجيا.”
بعد سقوط القذافي وجد الليبيون أنفسهم أمام مساحة جغرافية ليس فيها دولة ومؤسسات يمكن أن تحكم، وفشلت المحاولات التأسيسية في وضع أركان واضحة وقوانين تحكم البلاد وبقيت الكلمة الأولى والأخيرة للسلاح ولجملة من الأطراف الإيديولوجية. الفاعلون الرئيسيون في ليبيا كثر لكن يمكن حصرهم في اربع مجموعات كبيرة هي كالآتي:
1 الاسلاميون السياسيون :
الإخوان المسلمين
حسب هارون زيلين الباحث في مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى فإن “أول ظهور لـ جماعة «الإخوان المسلمين» في ليبيا عام 1949. وقد أسس رجل الدين المصري عز الدين ابراهيم مصطفى وآخرون فرع جماعة «الإخوان المسلمين» في ليبيا، حيث منحهم الملك الليبي السابق إدريس ملاذاً آمناً بعد هروبهم من الاضطهاد السياسي في مصر. وقد سمح لهم الملك درجة نسبية من الحرية لنشر فكرهم، ولم يمر وقت قصير حتى جذبت الحركة عدداً من المواليين المحليين. وحصلت الحركة على زخمها عبر المعلمين المصريين الذين كانوا يعملون في ليبيا. غير أن القذافي اتخذ موقفاً أقل مرونة معتبراً «الإخوان» مصدراً محتملاً للمعارضة. وبعد فترة قصيرة من وصوله إلى السلطة، قام باعتقال عدد من «الإخوان» وترحيلهم إلى مصر. كما قامت الأجهزة الأمنية باعتقال وتعذيب أعضاء من «الإخوان المسلمين» الليبيين عام 1973، ووافق هؤلاء تحت الضغط على حل «الجماعة». ونتيجة لذلك، التزم «الإخوان» الصمت حتى نهاية سبعينات القرن الماضي.
…وفي عام 1999، عادت جماعة «الإخوان المسلمين» الليبية إلى الساحة من خلال الحوار مع نظام القذافي. واكتسب هذا التبادل المزيد من الزخم في الفترة بين 2005-2006، عندما ساعد نجل معمر القذافي، سيف الإسلام، في دفع العملية إلى الأمام. وقد قام سيف الإسلام بذلك خصيصاً لاستمالة «الجماعة». ”
وقد شاركت جماعة الإخوان المسلمين في ثورة 17 فيفري 2011 وشكلت عديد الكتائب التي تسيطر الآن على أجزاء واسعة من ليبيا. وقد فاز الإخوان المسلمون جموعا (عن طريق حزب العدالة والبناء) وفرادى (قائمات مستقلة) في انتخابات سنة 2012 التي أفرزت المؤتمر الوطني العام والذي حكم بعد المجلس الانتقالي الذي أعقب الثورة الليبية لكن لم يوفق الإخوان في انتخابات 25 جويلية 2014 حيث جاءت النتائج لصالح منافسيهم المحسوبين على القوى الليبرالية المقربة من النظام القديم. لكن بعد الصراع الطويل الذي تلى هذه الانتخابات فإن الإخوان الآن طرف في المفاوضات التي انطلقت بين الخصوم الليبيين منذ فترة وكانت الصخيرات المغربية وعدة عواصم عربية وعالمية مسرحا لها.
«الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة»
أعلنت «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة»عن تشكيلها سنة عام 1995، لكن أصولها تعود لحراك عوض الزواوي في عام 1982 ، وقد تمكنت من التوسع وكسب الكثير من المؤيدين في جميع أنحاء ليبيا على مدى أكثر من عقد من الزمان. في بدايتها خططت الجماعة للحصول على السلطة وإقامة دولة إسلامية بالقوة ولما اكتشف نظام القذافي ذلك اعتقل المئات من عناصرها بعد أن نفذت «الجماعة المقاتلة» عدة محاولات فاشلة لإسقاط نظام القذافي في الأعوام 1986 و1987 و1989. ومن أبرز القيادات فيها أبو أنس الليبي الذي أصبح فيما بعد قياديا بارزا في تنظيم القاعدة الأم.
شاركت الجماعة الإسلامية المقاتلة في معارك الثورة الليبية وقد كانت طرفا بارزا فيها تحت قيادة عبد الحكيم بالحاج الذي يقود الآن حزب الوطن الذي يسيطر على كتائب قوية في ليبيا ويشارك في المفاوضات التي تديرها أطراف دولية وعربية. ويعتبر المتابعون أن الجماعة تخلت منذ حوارها مع نظام القذافي عن نهج السلاح وخيرت العمل السياسي السلمي.

2 الاسلاميون الجهاديون :
عديدة هي الكتائب الجهادية في ليبيا كانت أبرزها منذ الثورة كتيبة أنصار الشريعة التي قادها محمد الزهاوي إلى حين وفاته في أواخر سنة 2014 وبعدها بايعت الكتيبة تنظيم الدولة الإسلامية بعد أن كان قائدها يميل أكثر لتنظيم القاعدة. إلى جانب ذلك تجمع في بداية الأمر عدد هائل من الجهاديين في درنة حيث كانت هناك دعوات لمبايعة “الدولة” عبر مجلس شورى شباب الإسلام أو مجلس شورى المجاهدين الذي جمع كل القوى الجهادية باستثناء أنصار الشريعة التي كانت تتمركز أساسا في بنغازي وبعدها في سرت كما تتمركز في صحراء ليبيا وبعض قراها مجموعات تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
3 مجموعة حفتر والنظام السابق
لقد تمكن الجنرال خليفة حفتر الذي عاد من منفاه في الولايات المتحدة الأمريكية من جمع عديد الكتائب التي كانت بلا هوية أو التي انسلخت من كتائب معمر القذافي وسانده قادة عسكريون في نظام العقيد مثل العقيد خميس بوخمادة. وعرض حفتر نفسه كبديل لحالة الفوضى التي تشهدها البلاد بل أعلن انقلابا عسكريا في أواسط سنة 2014 لكنه على الأرض لم يكن يملك السيطرة لذلك كان مجرد طرف ربما فاعل رئيسي لكنه يبقى غير قادر على إدارة البلاد.

4 القوى المستقلة والقبائل
منذ ما قبل القذافي ، تعيش ليبيا حالة معقدة جدا من القبلية المفرطة انعكست بصورة مباشرة على فترة حكم النظام السابق الذي اعتمد القيادات القبلية لتهيئة الأجواء لنظامه؛ ليخفت بذلك نجم رؤساء القبائل مقابل نجم القذافي وأبنائه والمقربين منه “ولكن بعد الانتفاضة ودخول السلاح على العامل القبلي ظهرت القبيلة كطرف مؤثر في المشهد السياسي الليبي ممثلة في مليشيات قبلية ومناطقية، وظهرت معها جملة من المطالب والدعاوى المتعلقة بالتهميش الجهوي والادعاء بالأسبقية في دعم الانتفاضة والمشاركة في الحرب ضد النظام وما قدمته من تضحيات مما يعطيها الحق في نصيب وافر من السلطة والثروة يتناسب مع ذلك الدور، كما عادت -بسبب امتلاك السلاح- مشاعر التناحر والثارات القديمة.”
كما ظهرت أيضا قوة أخرى ربما ليست مسلحة لكنها تتمتع بدعم دولي كبير “تضم كل الذين يرفضون الحالة المليشياوية التي تتقمصها القوى الدينية والقبلية، ولا تنضوي تحت لواء الدين أو القبيلة بل تعتبر نفسها هي عمق المجتمع بمختلف أطيافه ومكوناته، فهي كتلة كبيرة غير متجانسة تضم الوطنيين الذين ليست لهم انتماءات عقائدية أو تنظيمية إلى جانب المثقفين والناشطين و بقايا القوميين واليساريين الذين لم يعودوا يمثلون أحزابا بل أفكارا وتوجهات، ولكن كل أطراف هذه الكتلة غير المتجانسة تلتقي جميعها حول مطالب الديمقراطية والدستور والدولة المدنية، وهذا يجعلها عمليا تقف صفا واحدا في مواجهة كل من يقف ضد هذه المطالب ويرفع شعارات تتناقض معها”
كل هذه الأطراف تتلقى دعما خارجيا من قوى اقليمية ودولية مختلفة حتى تحاول فرض رؤيتها بالقوة؛ غير أن التجربة التونسية في المصالحة شجعت الأطراف الدولية والليبية على تنظيم حوار انطلق من تونس ثم رعته المغرب ليتم التوصل في عهد المبعوث الأممي السابق برناردينو ليون إلى اتفاق سمي باتفاق الصخيرات لكن الطرفين لم يقبلا بصيغتيه الأولى التي رفضها الطرف الإسلامي والثانية التي رفضها الطرف الممثل لكتائب حفتر ومن معه.
ومع تسلم المبعوث الأممي الجديد مارتن كوبلر ملف الحوار في ديسمبر 2015 فاجأه الطرفان الليبيان بعقد اتفاق في تونس هو عبارة عن خارطة طريق لحل الأزمة غير أن الجانب المصري لم يوافق على ما جاء في الاتفاق كما حصلت ضغوط على المبعوث الأممي الذي بدا موقفه غامضا من الاتفاق الثالث الذي بقي إلى حدود الساعة تائها في صحراء التجاهل الإقليمي والدولي.


تونس تدخل العالم
بدأ الصراع في تونس حول هوية البلاد هل هي مرتبطة بتاريخها العربي الإسلامي؟ أم أن النسق التحديثي المنبت هو المسار الصحيح الذي يجب أن يسير فيه البلد؟ لقد كان انفصال شق الرئيس السابق الحبيب بورقيبة عن الحزب الدستوري القديم قبل الاستقلال بسبب اختلاف رؤيته “التقدمية التحديثية” عن الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان يميل للهوية العربية الاسلامية أول وأحد فصول هذا الجدل .
الصراع ظل يحكم تونس لعقود -ربما هذا ينطبق على كل بلدان شمال افريقيا وليس تونس فقط – ورثته حقبة بورقيبة التي شهدت خصوصا في سبعينات القرن الماضي وأوائل الثمانينات هزات عقدية كبيرة لعل أبرزها دعوة الرئيس مواطنيه إلى إفطار رمضان، والتي جوبهت برفض قطعي من أئمة الزيتونة. وفي السبعينات بلغت حرب بورقيبة على الإسلاميين ذروتها، حين انخرط في مشروع اعتبره حلفاؤه دولة وطنية فيما اعتبره آخرون مشروعا «للفرنسة المقنعة» بغطاء وطني.
ويقول بورقيبة عن ذلك في مقابلة مع صحيفة، « لوموند» الفرنسية، الصادرة بتاريخ 21 مارس 1976، في رده على سؤال حول انجازاته الأكثر فخرا: « أعتز بثلاث قضايا؛ أغلقت جامع الزيتونة، وحررت المرأة ، وأصدرت قانون الأحوال الشخصية الذي يقطع علاقة الأسرة بالتشريع الإسلامي».
هذا المناخ المشحون بالدفع نحو القطع مع الهوية الإسلامية للبلاد كان مقدمة مناسبة لظهور التيار الإسلامي والعروبي المتشبث بالهوية العربية الإسلامية، وفتح الأبواب لصعود شباب إسلامي، جديد في رؤيته وفي عقائده وفي نظرته للسياسة. هذا المناخ دشن مرحلة جديدة في مقاومة « تغول» علمانية بورقيبة، تمثلت بالانتقال من تصدي شيوخ الإسلام وحدهم وبشكل فردي له إلى تصدي منظم عبر تنظيمات سياسية وحتى عسكرية في بعض المراحل. وكانت الانطلاقة بظهور « الاتجاه الإسلامي»، الذي لم يكن وحده على الساحة الإسلامية كما يعتقد كثيرون، بل كان إلى جانبه تيار آخر هو « جبهة العمل الإسلامي» وهي تيار عقدي سلفي الرؤية والفكر.
بعد تولي الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي للسلطة امتد صراع النظام بعد “تجفيف المنابع” إلى كل العائلات الفكرية الأخرى ولم يسلم منها سوى اليسار الانتهازي أي اليساريون الذي استعان بهم النظام لترسيخ حكمه أو لضرب الإسلاميين وعانت البلاد من فراغ رهيب جعلها تتأخر اقتصاديا بتراكم الديون ثم علميا بتدحرج الجامعات التونسية إلى مراتب مخزية حيث أن أول الجامعات التونسية حسب الترتيب العالمي لسنوات 2009 إلى 2015 جاءت في المرتبة 400 فما أكثر.
هذه الوضعية التي بدأت تتعقد شيئا فشيئا مع تزايد القبضة الأمنية للنظام وتكاثر عدد العاطلين عن العمل وارتفاع نسب الفقر والتهميش هيأت فضاء خصبا للثورة التي حصلت في تونس. فهل استجابت الثورة لمطالب التونسيين؟
ظن التونسيون وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع في أكتوبر 2011 أنهم حين يضعون في الحكم حركة إسلامية سيضمنون عدم الرجوع إلى الخلف وأن وجود حركة إسلامية “مناضلة” عرفت محن التونسيين واختبرت عمق المعاناة سيكون أحسن خيار، لذلك لم يكن النظام الدولي قادرا على إيقاف صعود “النهضاويين” للحكم؛ فقد حرصت فرنسا عبر أذرعها في تونس على تعيين أشخاص موالين لها في الهيئات التي أعدت لانتخابات 2011 وفرضت هذه الهيئات قوانين قاسية تقلص من حجم الإسلاميين إلى جانب ضخ أموال كبيرة للحركات اليسارية واللبيرالية الموالية لها لكن اصطدمت تلك المحاولات بعناد شعبي وتمسك بالهوية العربية الإسلامية.
لكن لم يستمر الوضع طويلا فمع امساك النهضة وحلفائها العلمانيين المعتدلين للحكم بدأت جحافل الثورة المضادة في الظهور واستغلال الهفوات خصوصا التعاظم الكبير لقوة الإعلام وتأثيره على الشارع حيث يمكن القول إن الإعلام استطاع خلال الثورات العربية لعب دور قيادة الثورة المضادة بامتياز فسقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر سبقه تحضير إعلامي استثنائي ؛ بل يذهب المحللون إلى أن الآلة الإعلامية هي من صنعت الانقلاب حتى يوم التنفيذ اذ تصوير مظاهرات المعارضة التابعة للانقلاب كان خطة إعلامية، وفبركة ساعدت الجنرال السيسي في تبرير فعلته.
كما أنه من الضروري التأكيد على أن الدولة العميقة مثلت حاجزا صلبا تميز بسيطرته على مختلف مفاصل الدولة ونعني بهذا المصطلح كل الشبكات الأمنية والسياسية والمالية والعسكرية… التي يكون لها انتشار أفقي أو عمودي داخل الدولة الواحدة و” نشأ مصطلح الدولة العميقة أولا في تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة. برز بعد ذلك تلك المفهوم بتعريفات مشابهة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية مع إنشاء الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية، وبدا أن الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.” هذا الوضع جعل من الحكومة “الثورية” ضحية للهزات الاجتماعية والأمنية التي حصلت مما دفع بها إلى الإرتماء في أحضان أول حل يطرح وهو حل التوافق الذي أعتبر حلا يحفظ ماء الوجه للمصالحة مع النظام القديم لتدخل تونس ما عرف بالتوافق السياسي وهو عملية مصالحة بين الأطراف الإسلامية المعتدلة والأطراف العلمانية المعتدلة بما في ذلك النظام القديم. والحقيقة أن ذلك التوافق جنب تونس هجمة كبيرة من قبل أطراف عربية دولية عملت على تقويض الثورات وطُرحت فكرة جعل تونس نموذجا لبقية الدول فهل سينجح “منتزه النظام الدولي في شمال إفريقيا”؟
إن محاولة جعل تونس منتزها للنظام الدولي لترويج الديمقراطية والمصالحة كخيار بديل عن انفراد الإسلاميين بالحكم اصطدم بكثير من المطبات أولها الظروف الاقتصادية المزرية، بالإضافة إلى غياب الحرية الدينية وغياب الحقوق الخاصة بالإسلاميين مما غذى منطق الصراع مع التيار الجهادي وجعل تونس محطة استقرار للتنظيمات الجهادية المختلفة.
تونس بين قاعدة الجهاد وتنظيم الدولة
لقد ترسخ العمل الجهادي في تونس بعد الثورة بعد أن كان البلد منطقة عبور قبلها ويعود ذلك حسب المتابعين للشأن الجهادي لنقطتين أساسيتين أولاهما انتشار الفكر الجهادي في تونس الذي تصاعد منذ سنوات 2006 و2007 والسبب الثاني هو تركيز تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي على تونس.
وقد استقر التنظيمان الجهاديان في جبال الوسط الغربي في تونس حيث تستقر كتيبة عقبة ابن نافع التابعة لتنظيم القاعدة في جبال الشعانبي بينما تتركز طلائع جند الخلافة الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية في سلسلة جبال مغيلة الرابطة بين القصرين وسيدي بوزيد ، وقد يبدو أن استقرار التيار الجهادي في تونس مرده التعاطي الأمني القمعي مع ملف حساس جدا وفشل الدولة في التواصل مع الشباب “المتدين” عموما وبخصوص شباب التيار الجهادي حيث سارعت أول حكومة بعد الثورة إلى الصدام ووقعت في فخ مواجهة لن تنتهي بسهولة أو قد لا تنتهي أصلا.

المغرب والثورة الهادئة
لم تكن المغرب بعيدة جدا عن ثورات الربيع العربي فالبلد الذي يحكمه نظام ملكي على عكس بقية الدول المكونة لجغرافيا شمال إفريقيا لم يكن حاله الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أفضل من بقية الدول التي عرفت الانتفاضات على الظلم لكنه يعتبر البلد الوحيد الذي أسفرت فيه الاحتجاجات الواسعة في مطلع عام 2011 عن تغيير الدستور في استفتاء شعبي أنتج وثيقة لم يعُد يطلق فيها على الملك لقب “مقدس”، ويتوجب فيه على العاهل المغربي تعيين رئيس وزراء من الحزب الذي يتمتع بأغلب المقاعد البرلمانية.
وقد انتجت أول وثاني انتخابات في المغرب خريطة سياسية يغلب عليها لون الاسلاميين “وقد ألهم هذا المزيج غير العادي من التغيير والاستقرار الواضحان، إلى حدوث حالة انفلات كلامي من قبل بعض المسؤولين المغاربة ومثقفين أمريكيين بارزين حول قيام “طريق ثالث” مفترض في المغرب مكون من ديمقراطية إسلامية تدريجية. وكما يقولون، ربما يمكن للمغرب أن يكون نموذجاً لممالك عربية أخرى، أو حتى أبعد من هذا. ومع ذلك وفي تناقض حاد هناك مغاربة مطلعين آخرين — التقيت بهم في زيارة بحثية قمت بها مؤخراً — يتمسكون بنظرة مفادها أن الإصلاحات هي إلى حد كبير شيء زائف — وأن البلاد لا تزال مهيأة للثورة، إن كانت إسلامية أم غير ذلك، بمجرد استيقاظ شعبها على هذا الواقع.”
وما زاد في نزوع النموذج المغربي نحو الاستقرار هو أن الأجندة الإسلامية كانت لينة جداً فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي وضع فيه الحزب الحاكم -حزب «العدالة والتنمية»- إلى حد كبير مسؤولية الدعوة إلى الصلاة على وسائل البث الإعلامي المغربية المملوكة للدولة، رفض الملك مطالب الحزب بتغيير لغة بث نشرة الأخبار الرئيسية من الفرنسية إلى العربية. وهو جدل خفي بين القصر والإسلاميين لم يخرج عن دائرة اللياقة التي يطلبها محمد السادس وتستجيب لها بحرفية حكومة العدالة والتنمية بن كيران.
سعى محمد السادس بحرفية بالغة إلى تجنب “الربيع” ومكن للإسلاميين بمختلف توجهاتهم في الدولة حيث أصبح لهم رأي مسموع بل تجاوز الصدام مع التيار الجهادي حتى أن خطبة الشيخ محمد الفزازي أمامه أصبحت مضربا للمثل في إبراز قيمة الحوار مع التيارات الإسلامية، والعامل الثاني المهم الذي استعاد من خلاله ملك المغرب نظارة حكمها هو علاقات بلاده الخارجية التي تدعمت بعد تحالفه مع دول الخليج وثقة الجانبين الأمريكي والأوروبي فيه حيث تسلم ملف مالي بالكامل من الناحيتين الاقتصادية والدينية إلى جانب مشاركته العسكرية.


مركزية قضية الصحراء

يعاني شمال افريقيا عموما من أزمات لا حصر لها فالبطالة التي تكدست في صفوف الشباب من أصحاب الشهادات العليا أصبح كابوسا في المنطقة زيادة على مشكلات أخرى بالجملة تتلخص أساسا في:
* معاناة أقطار المغرب العربي من ضغوط اقتصادية متنامية نتيجة الاكتضاض السكاني بالسواحل على حساب المدن الداخلية، علاوة على ارتفاع المديونية الخارجية وانفجار نسبة التضخم المالي الذي أجّج ظاهرة الفقر ووسّع الهوة بين طبقات المجتمعات المغاربية حيث همّشت الطبقة المتوسطة لتتشكّل مجتمعات من طبقتين واحدة غنيةّ و الأخرى فقيرة.
* تنامي عدم التوافق السياسي حيث تزايدت الصراعات السياسية الداخلية على مستوى الكمّ و النوع إضافة إلى الخلافات والصراعات بين حكومات هذه الدول.
محرّك آخر بارز في تحديد ملامح الخلافات بين أقطار شمال إفريقيا ألا و هو السباق نحو التسلّح.
“كل شيء يمكن الحديث عنه إلا مشتريات الأسلحة لجيشي الجزائر والمغرب، فهو أكثر شيء غامض وأكثر شيء تحيطه السلطات بالسرية التامة، كما أن التعرض له قد يؤدي إلى حفرة طولها متران وعرضها خمسون سنتيمترا تكفي للاستلقاء على جنب واحد “لمدة غير معلومة”. فلقد صرح وزير سابق في الحكومة الجزائرية لسويس إنفو رفض الكشف عن هويته بأن ” أزمة الصحراء المغاربية لم تعد هدفا في حد ذاتها من حيث رغبة الجزائر في الدفاع عن الشعب الصحراوي الذي يسعى لاسترجاع استقلاله، أو رغبة المغرب في استرجاع أرضه التاريخية التي احتلها الإسبان”. وأضاف الوزير السابق: ” لقد أصبحت أزمة الصحراء مطية لتسلح محموم يُقدر بمليارات الدولارات تُصرف لجلب أسلحة لن تُستعمل في الغالب، وهي إن استُـعملت، لن تعدو صراعا بين سيف ودرع لأن ما يملكه طرف يعادله طرف آخر في امتلاك سلاح يُفقد مفعوله”
أثّر السباق المشحون نحو التسلّح على البنية العسكرية وتوازنات القوى الإستراتيجية في المنطقة ؛ لكن هذا السباق التقفه المركز وشركاته بكل ترحيب وأصبحت سوق الجزائر والمغرب إحدى أهم الوجهات المميزة لأنواع السلاح. ولمزيد إقناع الطرفين بأن هناك خطرا حقيقيا يفعّل النظام الدولي لعبة الصراع الموروث من الحرب الباردة بل و يقتنع بهذه اللعبة قطاع واسع من الباحثين حيث يذهب الباحث وسيم بهلول إلى القول بأنه “على الرغم من انتهاء الحرب الباردة على الصعيد الدولي ما زالت أجواء مشحونة تسيطر على المغرب العربي الذي تعيش بلدانه حالة مُزمنة من القطيعة والصراع، لا تتجسد في المناورات السياسية في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وحسب، وإنما تلقي أيضا بظلال كثيفة على علاقاتها مع كبار تجار الأسلحة في العالم. ويمكن القول إن التحالفات القديمة الموروثة من الحرب الباردة مازالت تقود سباق التسلح لدى بلدان المنطقة، فالجيش الجزائري الذي تعودت قياداته وكوادره على الأسلحة الروسية، جدد العهد مع الحليف السابق وأبرم صفقات ضخمة ومتنوعة مع موسكو. وكذلك فعلت ليبيا عندما عقدت بدورها صفقة لافتة مع روسيا في نوفمبر الماضي بمناسبة زيارة العقيد معمر القذافي لموسكو، فيما اشترى المغرب طائرات متطورة من طراز أف 16 من الولايات المتحدة الأمريكية.”
الأمر إذا أشبه بلعبة سخيفة، فزيادة على تقلب البعض من حليف إلى قضية الصحراء إلى محايد أو عدو لها مثلما يفعل القذافي الذي دعم البوليساريو مرات عديدة وابتعد عنها مرات أخرى بسبب “نزوات سياسية عابرة”؛ لم تكن هناك رؤية واضحة لدى بلدان المنطقة تجاه علاقاتهم البينية التي بنيت كلها على تأجيج الصراع المحموم بين المغرب والجزائر حول قضية الصحراء الغربية.
ومن الغريب أن هذه القضية لا تزال إلى اليوم محل اهتمام كل القوى في المنطقة فالنظام الانقلابي الحالي في مصر أرسل في فترات مختلفة بعثات حقوقية مصرية وعربية اشرف على تمويلها إلى مخيمات الصحراويين في تندوف بالجزائر لاستغلال قضية الصحراء لاستمالة طرف على آخر وكسب اعتراف جديد بنظام عبد الفتاح السيسي.

لعبة الصحراء الغربية دولية وليست شأنا محليا فالولايات المتحدة التي عرفت منذ فترة مفاوضات متتالية بين المغرب والبوليساريو تعتبر المغرب حليفا استراتيجيا في ملف الجماعات الجهادية بينما تقف لوبياتها إلى جانب ملف انفصال الصحراء، وهو نفس الموقف الأمريكي من ملف الأمازيغ في الجزائر فهي تدعم الجزائر لأنها حليف مهم في الحرب على تنظيم القاعدة لكنها ليست كذلك عندما يتعلق الأمر بملف القبائل. ومثل ذلك أيضا الموقف الفرنسي الذي مر بهذه اللعبة على مراحل كثيرة تارة إلى جانب الطرح المغربي وأخرى إلى جانب الطرح الجزائري وأخذ موقف باريس يتقلب هنا وهناك حسب ما تشتهيه المصالح الاقتصادية وأحكام النظام الدولي وهو دأب كل القوى العالمية في مثل هذه القضايا.
فماهي قضية الصحراء الغربية وكيف بدأت والى اين وصلت؟
يعتبر الصحراويون أن قضيتهم هي أقدم قضية تقرير مصير في العالم بعد القضية الفلسطينية فيما يعتبرها النظام المغربي أكبر قضية ابتزاز تعرضت لها المملكة في التاريخ وبين هذا وذاك تقف الجزائر صارخة بأنها مع حق تقرير المصير وراعية مباشرة لحقوق “الشعب الصحراوي”.
يمكن اعتبار الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد الفاضل القلقمي أبا روحيا ومؤسسا لمنطقة الصحراء فهو مؤسس مدينة السمارة التي استقر فيها1898، ارتبط اسمه بمقاومة الاستعمار الإسباني والفرنسي، وظل اتصاله مستمرا بملوك المغرب، وجدت فرنسا وإسبانيا صعوبة في اختراق موريتانيا والصحراء بفضل مساندة الشيخ ماء العينين للمقاومة. وحين “بدأ الفرنسيون في استعمار موريتانيا والتوغل في أراضيها والاستعداد لجعل المغرب تحت القبضة الاستعمارية، في حين أحكم الإسبانيون قبضتهم على إقليم الصحراء… نظم الشيخ ماء العينين القبائل الصحراوية والموريتانية للدفاع لمقاومة المستعمر وسافر مرارا إلى السلطان المغربي ليسلح المقاومة، وقد بلغ عدد زياراته سبعا، أربع لمراكش وثلاث لفاس. ووصل في المرة الثامنة إلى تادلة وهو في طريقه إلى فاس. ولأن الفرنسيين كانوا ملمين بنوايا الشيخ ماء العينين فقد أوعز إليه السلطان عبد الحفيظ بالرجوع من حيث أتى تحت ضغط الفرنسيين وخوفا من وقوعه بأيدي جنودهم. وقد استطاعت المقاومة أن تلحق بالفرنسيين خسائر، إلا أن عدم استجابة العرش لمطالب الشيخ تحت ضغط الفرنسيين دفع به إلى الاستقرار بتزنيت بجنوب المغرب فأقام بها سنوات قبيل فاته.”
ومن خلال ما تقدم يبني طرفا النزاع؛ المغرب وجبهة البوليساريو (ومن ورائها الجزائر ) أصول أطروحتيهما للقضية ففي حين يحتج المغرب بأصول الشيخ ماء العينين وارتباطه بالملوك الذي حكموا البلاد سابقا يرى الصحراويون أنه رغم هذا الارتباط فان العرش المغربي تخلى عن المقاومة الصحراوية ضد الاسبان والفرنسيين في آخر عهدها وهو ما يعنى فك أي ارتباط ممكن بين الصحراء والمغرب.
لكن أيادي النظام الدولي ساهمت بشدة في تعميق الصراع ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول 1975 حينما طلب من محكمة العدل الدولية الحكم في القضية أصدرت قرارها الذي نص على وجود علاقات تاريخية بين الصحراء الغربية من جهة والمغرب وموريتانيا من جهة ثانية. لكن القرار قال أيضا إنه لا توجد أي “روابط للسيادة الترابية بين أراضي الصحراء الغربية من جهة، ومملكة المغرب أو مجموع التراب الموريتاني من جهة أخرى”. وهو ما يعني إعطاء الضوء الأخضر لاستمرار الأزمة التي كان من المتوقع أن تكون بين موريتانيا والمغرب لكن بعد وفاة الرئيس الجزائري هواري بومدين وفي الوقت الذي تراجعت فيه موريتانيا عن مطالبتها بالصحراء وتخليها لصالح المغرب دخلت الجزائر على خط القضية بقوة وتراجعت عمّا قرره بومدين من اعتراف بأغلبية الصحراء. ولم تفلح محاولات المغرب في محاولاتها لحسم القضية خصوصا مسيرتها الخضراء التي نظمتها في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 إلى الصحراء بتوجيه من الملك الحسن الثاني ومشاركة 350 ألف مغربي في محاولة لتغليب وجود العنصر البشري الموالي لها في الصحراء.
تضاعفت جهود الجزائر في دعم “تحرر الشعب الصحراوي” فيما تعتبر المغرب ذلك تدخلا في شؤونها الداخلية وردت بدعم قضايا الأقليات الأمازيغية في الجزائر أين تثور بين الفينة والأخري “القبائل” وفي هذا الاطار “يثني فرحات مهني على جهود المملكة المغربية في دعم وتدويل قضية القبائل واصفا موقف المغرب بالداعم لقضيتهم التي انطلقت منذ 2001 فيما عرف “بالربيع الأسود” وانتهت الى اعتراف الأمم المتحدة بعلم القبائل التي تواصل مطالبتها بحكم ذاتي. ووصف مهني مطالبة السفير المغربي بإدراج قضية القبائل ضمن أشغال المنظمة حدثا تاريخيا استقبله سكان القبائل بامتنان كبير”.
هذه القضية خطيرة جداً ولا تقل خطورة على ملف الصحراء الغربية لأنه يهدد وحدة التراب الجزائري الذي تسيطر القبائل الأمازيغية فيها على مساحات واسعة قد تصل الى ثلث مساحة الجزائر وهو ما قد يؤثر على دول أخرى خصوصا ليبيا التي تضم الكثير من الأمازيغ وربما تونس أيضا التي تضم عددا مهما منهم. زيادة على ذلك عاشت العلاقات بين الجزائر والمغرب هزات عنيفة أخرى فبعد رفض المملكة تسوية أوضاع حدودها مع الجزائر في عهد استعمار هذه الأخيرة ورفضت عرضا فرنسيا في هذا السياق مؤجلة الأمر إلى ما بعد تخلص الجارة الشرقية على استقلالها. رفضت الجزائر تسليم منطقة تندوف وما حولها لتندلع حرب الرمال بين الطرفين سنة 1963، والتي خلّفت توترا مزمنا في العلاقات المغربية الجزائرية.


العلاقات التونسية الجزائرية

العلاقات بين الجانبين التونسي والجزائري ليست فيها هزات عديدة وقد كانت للبلدين نقاط التقاء عديدة من فترة الاستعمار وحتى ما قبلها خلال الحكم العثماني وما لحقه وصولا إلى ما بعد استقلال وبناء ما عرف عند نخب المنطقة ب”الدولة الوطنية”.
لكن هذا لم يمنع نفوق عديد الخلافات السياسية بعد استقلال القطرين لاختلاف توجهات نظامي الحكم في البلدين “فالحبيب بورقيبة لم يكن يخفي ميله الى المعسكر الغربي في حين كانت الثّورة الجزائرية مرتبطة بعمق بالمعسكر الإشتراكي و كانت قياداتها متأثّرة كثيرا بالمنهج النّاصري الذي لم يكن على ود كبير مع الحبيب بورقيبة .”
وفي الحقيقة بدأت الخلافات تطفوا على السطح بين العلاقات التونسية الجزائرية مباشرة بعد إعلان الاستقلال تونس في العام 1956 فمصادر تاريخية عديدة تحدّثت عن محاولات قام بها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بعد زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتوسّط لتهدئة حدّة المواجهة بين فرنسا و جبهة التّحرير الوطني “حيث حاول طيلة ثلاثة أسابيع من النقاشات و الاتصالات مع قيادات الثّورة الجزائريّة إقناعهم بإنهاء الكفاح المسلّح و الجلوس الى التّفاوض ،الشيء الذي لم يلقى صدى لدى الجزائريين و أثّر كثيرا عن وديّة العلاقة ،غير أنّ ذلك لم يعني تخلّي تونس عن دورها في دعم الثّورة الجزائرية من خلال عبور السّلاح و احتضان قادة الثّورة .”
و بعيد استقلال الجزائر و انتصار “ثورة التحرير”، وُقّعت اتفاقية دبلوماسية وقنصلية بين القطرين في 26 جوان 1963، علاوة على اتفاقية “إنشاء اللجنة الكبرى المشتركة للتعاون بين البلدين” في 6 جانفي 1970. و قد ساهمت عديد الاتفاقيات المبرمة بين البلدين في مختلف المجالات رغم اخفاق مشروع إتحاد المغربي العربي في حجب خلافات كثيرة حول الموقف من الصّحراء الغربيّة مثلا و قضيّة التعدّدية السياسية في الجزائر و تقنين عمل جبهة الإنقاذ الإسلامية بداية التسعينات الشيء الذي أزعج كثيرا حينها نظام بن علي الذي أقحم نفسه في تلك الفترة في مواجهة مع الحركة الإسلاميّة في تونس .
و قد استدعت الحكومة التونسية سفيرها في الجزائر في جانفي 1963 متحجّجة بتواطؤ الجزائر مع عسكريّين تابعين لصالح بن يوسف قالت أنهم حاولا اغتيال الحبيب بورقيبة. وكشف هذا الإجراء عن عمق الخلافات الإيديولوجيّة بين النّظامين حيث لم يكن أحمد بن بلة المرتبط بالمشروع النّاصري القومي الاشتراكي مرتاحا لبورقيبة الذي يعتبره “متخندقا مع المعسكر الغربي و أنّه طالما عادى الثّورة الجزائرية حسب رأيه لذلك كان بن بلة منحازا لغريم بورقيبة صالح بن يوسف المرتبط بدوره بالمشروع القومي النّاصري”.
و قد طفت الخلافات على سطح العلاقات بين البلدين في مرات عديدة فعندما منحت تونس حق اللجوء السياسي للعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري الذي قاد محاولة انقلاب ضدّ حكم الرئيس هواري بومدين. ارتفع مؤشر التوتر الذي زاد ارتفاعا بعد استضافة الجزائر لزعيم حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي الهارب من النظام التونسي وهكذا كانت العلاقة بين البلدين وصولا إلى ما بعد الثورة حيث حافظت على نسق الشد والجذب بين الجانبين.
فموافقة الجانب التونسي في ماي 2015 على الدخول كحليف استراتيجي غير دائم في حلف الناتو قرأته الجزائر بلغة الارتياب والحذر واستدعت سفيرها في تونس دون أن تعلن عن ذلك، مما اضطر الجانب التونسي إلى تبرير ذلك بأن المسألة لا تستهدف الجزائر وأن تونس لن تستضيف قواعد عسكرية على أراضيها.

مالي ساحة الجهاديين
تاريخيا عاش سكان أزواد أغلب فترات حياتهم لاجئين نحو المغرب والجزائر أين اندمج بعضهم في المجتمعات بينما سعى البقية الى استثمار معرفتهما بمنطقة الصحراء للربح المادي عبر روابط مع الحركات الجهادية أو مجموعات التهريب ومن أنشطة استخباراتية أو تجارية مع جهات نظامية في المنطقة.
بعد الثورة الليبية تضاعف نشاط مختلف الجماعات خصوصا الطوارق الذين شهدوا عمليات هجرة من ليبيا من طرف طوارق كانوا مقيمين هناك وقد ساهم محمد الناجم (أحد القيادات العسكرية في نظام القذافي ) في تطور قدرات الحركة الوطنية لتحرير أزواد بعد أن التحق بها وساهم عبر قيادتها في الحاق هزائم عديدة بالجيش المالي.
تجدر الاشارة الى ان الطوارق تعتبر من كبريات القبائل في منطقة الصحراء وتسعى إلى فرض وجودها عبر دولة أساسها عرقي وقد بدأ حراك منذ 1962 أساسه التمرد على الأنظمة في المنطقة خصوصا النظام المالي. و “بدأ هذا التمرد الذي عرف بـ”الفلاقة” (وهو مصطلح كان يستخدمه الجيش الفرنسي لنعت المقاومين أثناء احتلاله الجزائر وتونس) من منطقة كيدال, وتعرض لقمع شديد من الجيش المالي الذي دمر مخازن الغذاء وسمم آبار المياه, وتمكن في نهاية المطاف من إخماد التمرد وفرض حكم عسكري على مناطق الطوارق. تسببت العمليات العسكرية للجيش المالي على مدى عامين تقريبا في موجة نزوح نحو الجزائر وبلدان أخرى مجاورة لمالي.”
ثم تأسست الحركة الشعبية لتحرير أزواد، وهي أول تنظيم سياسي للطوارق الماليين. ومهدت هذه الحركة لظهور حركات أخرى أكثر تنظيما وصولا إلى الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي ظهرت نهاية 2011 وكانت أكبر الحركات وهي كانت طرفا في الحوار الذي سبق التدخل العسكري الفرنسي في مالي.
بعد خلاف مع الجماعات الجهادية التي سيطرت سابقا على شمال مالي وجدت الحركة الوطنية لتحرير أزواد نفسها مرغمة على الدخول في الحوار الذي يديره النظام الدولي؛ وقد كانت آخر مراحل هذا الحوار في جويلية 2015 حيث تم توقيع “اتفاق السلام والمصالحة” الذي وصف بالتاريخي والذي وقعه معسكر الحكومة والوساطة الدولية قبل شهر، ومن شأنه أن يضع حدا لسنوات من النزاع في مالي.
ويجدر التذكير أن التدخل الفرنسي أعقبه تركيز لقوة أممية؛ يشير تقرير للأمم المتحدة إلى أنها تتكون من خمسة آلاف و539 جنديا مع نهاية 2013، وذلك من أصل 11 ألفا ومائتي جندي أجاز مجلس الأمن انتشارهم.
وفي مقابل الموقف الجزائري الذي ركز على تأمين الحدود ضد انتشار الجهاديين هرعت المغرب إلى الانضمام إلى التدخل الذي قادته فرنسا في مالي. ونقلت نموذجها الخاص بمجابهة التيار السلفي الجهادي إلى مالي حيث وقّعت معها اتفاقاً لجلب 500 إمام مالي إلى المغرب للتدريب الديني، حيث تأمل الحكومتان أن يكون تدريبهم بمثابة الدرع الحصين ضد الدعاة السلفيين المنتشرين في مالي. وفي هذا السياق يقول الكاتب في مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ڤيش سكثيفيل إن المغرب “لعب دور المعلم في هذا الإطار، فإن الاتفاق سيشمل حتماً فرض الممارسات الدينية المغربية في مالي. ولكن، بالفعل هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الممارسات الدينية في مالي ونظيرتها في المغرب – فالأولى تتبع المدرسة المالكية بشكل كبير – كما أن النخب في مالي ترى أن الهيمنة المغربية المحتملة هي أخف الضررين… وبالإضافة إلى الاتفاقات الأمنية والدينية مع مالي، فقد سعت المغرب أيضاَ – التي تفتقر إلى النفط والموارد الطبيعية – إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع جيرانها في الجنوب. فأقامت فروعاً لمصارفها في مالي والسنغال. وقد حصل إحداها – “التجاري وفا بنك” – على حصة تزيد عن 50 بالمائة في “بنك إنترناسيونال” في مالي. كما اشترت شركة “اتصالات المغرب” المملوكة للدولة شركات اتصالات في مالي وموريتانيا والنيجر ولديها فروع في بوركينا فاسو. وكثفت شركة “المكتب الشريف للفوسفات” ( (OCP – وهي شركة الفوسفات المغربية التي تديرها الدولة – عمليات التنقيب عن الفوسفات التي تقوم بها في شرق مالي (وعززت الأمن الغذائي في مالي في هذا الإطار). ولدى مالي موارد طبيعية أخرى يمكن للشركات المغربية أن تتطلع لاستخراجها، مثل الذهب واليورانيوم وخام الحديد، وربما الماس.”
وفي الحقيقة لم يستطع النظام الدولي إيجاد حل للسيطرة على الصحراء في شمال إفريقيا قبل الثورات لذلك يصبح الحديث عن إيجاد حل في ظل الظروف الحالية في المنطقة والعالم أشبه بالحلم فتوحد الجماعات الجهادية وزيادة ارتباطاتها الإقليمية والدولية يجعل من اعتراض نفوذها عملية قيصرية مجهولة العواقب.
الجماعات الجهادية في شمال إفريقيا

في مالي هناك تضاريس جغرافية تستهوي كل اللاعبين خارج النظام الدولي خصوصا الحركات الجهادية التي تتوزع على مناطق مختلفة في الصحراء انطلاقا من ليبيا مرور بالجزائر والحدود التونسية وصولا الى حدود المغرب وموريتانيا لكن الكثافة الأشد لهذه الجماعات هي تلك التي سبقت التدخل الفرنسي في مالي حيث عرفت تومبكتو قرابة الأربع جماعات جهادية كبرى هي انصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا المنبثقة عن تنظيم قاعدة الجهاد في المغرب الاسلامي والتي تفرع عنها جناح مختار بلمختار (عاد في شهر ديسمبر 2015 الى مبايعة القاعدة) وحركة أنصار الشريعة.
أهم فصيل إلى حدود اليوم في شمال إفريقيا هو تنظيم قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي الذي كان يسمى من قبل الجماعة السلفية للدعوة والقتال وهو نتاج طبيعي لحالة القتال التي شهدتها الجزائر منذ انقلاب العسكر على نتائج انتخابات 1988، وقد شكلوا استمرارية للنشاط العسكري الذي كانت تقوم به جبهة الانقاذ التي اختار أغلب عناصرها الخضوع لقانون المصالحة الذي أعلن عنه عبد العزيز بوتفليقة بعد توليه السلطة في البلاد. غير أن الاختلاف بين جماعة أبو مصعب عبد الودود وجبهة الانقاذ هو فارق عقدي بين الطرفين حيث كان القتال ردة فعل لجبهة الانقاذ التي تقترب كثيرا من الاخوان المسلمين في حين يعتبر القتال عند السلفية الجهادية أمرا شرعيا ومطلوبا لتحقيق الشريعة.
تفرعت عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عدة مجموعات كما أن هناك عديد المجموعات لا تزال منفصلة عنه مثل “حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا” التي أعلنت عن وجودها من خلال تبنيها عملية اختطاف ثلاثة من عمال الإغاثة من أسبانيا وإيطاليا سنة 2011 في تندوف الجزائرية، ويقودها حمادي ولد محمد الخيري وتتبع الآن تنظيم الدولة الإسلامية الذي بايعته في 2014 وتنشط في مالي وكانت أحد الكتائب التي سيطرت على شمال مالي في 2012.
من ضمن الفروع الأخرى التي انشقت عن تنظيم القاعدة ، حركة الموقعون بالدماء التي تأسست عقب انسحاب خالد بو العباس أو كما يعرف بمختار بلمختار من تنظيم القاعدة عقب خلاف مع عبد الملك درودكال زعيم تنظيم القاعدة في المرغب الإسلامي. وفي الحقيقة تواردت عدة أسماء عن مجموعة بلمختار فمن وسائل الإعلام من يسميها الملثمون ومنها من يسميها الموقعون بالدماء لكن الثابت الآن أن هذه المجموعة التي تنشط بين الجزائر ومالي وليبيا ولها علاقات مع جهاديين تونسيين عادت إلى مبايعة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في أوائل ديسمبر 2015 كما بينه أبو مصعب عبد الودود في تسجيل صوتي في نفس التاريخ عنوانه “البنيان المرصوص”.
أنصار الدين هي أيضا من أهم الجماعات الجهادية التي تنشط في شمال إفريقيا تحديدا في مالي حيث سيطرت بعد انقلاب عسكري في مالي على أجزاء واسعة من شمال البلاد بالتعاون مع جماعات جهادية أخرى؛ ويقود هذه الجماعة إياد آغ غالي وهو دبلوماسي سابق ورجل يتمتع بعلاقات مهمة في منطقة الصحراء وتمكن من جلب عديد القيادات التي كانت تابعة للقاعدة في المغرب الإسلامي أو لحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا.
وقد تلقت أنصار الدين دعما قويا أيضا من تنظيم أنصار الشريعة بمالي الذي أسسه عمر ولد حماها (صاحب اللحية الحمراء) وهو عربي كان تحت قيادة مختار بلمختار وتربطه به علاقة نسب وأسس سنة 2011 تنظيمه الذي حارب القوات الفرنسية وساهم في السيطرة على شمال مالي، لكن اغتيل صاحب اللحية الحمراء من طرف القوات الفرنسية ولا تزال المعلومات متضاربة حول كتيبة أنصار الشريعة ؛فمن المتابعين من يعتبر أنها تفككت والتحق مقاتلوها بمجموعات جهادية أخرى وهناك من يرجح استمرارها في قتال القوات الأممية التي تنتشر في مالي.
أما تنظيم الدولة في شمال إفريقيا فإن “نجمه في صعود مستمر” وقد اعتمد على ليبيا بشكل أساسي وما تنشره الصحافة في المغرب العربي عن “التنظيم” ليس دقيقا وأغلب المادة الصحفية في شمال إفريقيا تتحدث عن قصص خيالية من قبل هرب قيادات تنظيم الدولة وقياداتها عبر طائرات تركية الى طرابلس ودرنة وسرت وصبراتة. وهي في الحقيقة روايات تزرعها المخابرات الإيرانية والروسية والسورية للترويج لانتصار وهمي لهذا التحالف الذي يحارب الجماعات الجهادية و كل الثوار السوريين في الشام.
وحقيقة وصول نفوذ هذا التنظيم الى ليبيا بهذا الزخم هو نتيجة طبيعية لعدة معطيات أولها فشل حوار تنظيم أنصار الشريعة مع بقية الأحزاب الإسلامية (حزب الوطن وريث الجماعة الليبية المقاتلة وجماعة الاخوان المسلمين في ليبيا) حيث كانت الجماعة تفضل نهج القاعدة في مراعاة الحاضنة الاجتماعية وتغلب منطق التواصل مع الجماعات الإسلامية لكن القيود التي فرضها “برناردينو ليون” مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا على شركاء الحوار سرعت بأخذ أنصار الشريعة إلى الضفة الأخرى خارج النظام الدولي.
كانت سرت أول مدينة يسيطر عليها تنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا» بعد بنغازي المعقل الرئيسي للتيار الجهادي ،وقد بدأ في نشاطات عديدة استوعب من خلالها السكان المحليين الذين كانوا هاربين من تهمة استقبال أنصار الرئيس السابق معمر القذافي. ومنذ ذلك الحين، أصبحت سرت القاعدة الثانية لـ «أنصار الشريعة في ليبيا» من حيث كثافة الفعاليات ؛ “فعلى صعيد الحوكمة، وفّر تنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا» دوريات أمنية في أحياء متعددة وفي “جامعة سرت”، وشارك في حل القضايا بين القبائل والعشائر (كانت بعضها من مدينة مصراتة البعيدة)، وأعاد سيارة إسعاف مسروقة إلى مستشفى، ونظم السير، ونظف الطرقات، من بين أمور أخرى. وفي ما يخص “الحسبة” – أي النظام الذي تؤتمن بموجبه أي «دولة» إسلامية في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – نفذ التنظيم عقوبة “التعزير” (وهي مجموعة عقوبات جسدية وغير جسدية يُترك أمر إقرارها للسلطات، بخلاف العقوبات التي حددها القرآن) وصادر المخدرات والسجائر والكحول وأتلفها. كذلك، شارك التنظيم بتوفير خيم للـ “إفطار” وبتوزيع الهدايا على الأطفال خلال شهر رمضان، كما أعطى دروساً حول كيفية الطواف الصحيح حول الكعبة خلال أداء مراسم الحج في مكة، ووزع الذبائح خلال عيد الأضحى، ووفر اللوازم المدرسية عند بداية العام الدراسي، وحوّل العمال الأجانب إلى اعتناق الإسلام، وأقام حملات خيرية لمساعدة العائلات المحتاجة.”
بفضل سيطرته على سرت، اكتسب تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» قاعدة أكثر ثباتاً من محاولاته الفاشلة في درنة، وأنشأ عاصمته الأولى خارج سوريا والعراق. وزادت المكاسب من المنشآت النفطية في تقوية عود التنظيم الذي أصبح جسدا عملاقا يثير مخاوف المنطقة بأسرها ويستوعب أكثر من القاعدة قوافل الجهاديين في المغرب الإسلامي.
ويمكن القول إن الطريقة التي اعتمدها التنظيم في ليبيا شبيهة إلى حد بعيد بالطريقة التي اعتمدها التنظيم الأم في سوريا حيث سيطر على مدن بأخف الأضرار وأصبحت مناطق خالية من منافسيه على عكس درنة التي تعج بمقاتلي وكتائب فجر ليبيا كما أظهر التنظيم قدرة على “التسويات التي توصل إليها القبائل المحلية، وانضمام أنصار الرئيس السابق معمر القذافي من مسقط رأسه في سرت إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» أو رضوخهم لاستيلائه على المنطقة، بطريقة مماثلة لما قام به البعثيون سابقاً في العراق. ونتيجة لذلك، قد تصبح سرت عما قريب عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا»، مثلها مثل مدينتي الرقة في سوريا والموصل في العراق.”
ويضاف إلى هذه الجماعة حركة جهادية محلية أخرى “وهي “جبهة تحرير ماسينا”، بقيادة الشيخ “محمد كوفي”، وتتألف أساسا من مقاتلين من قبائل الفلان الإفريقية، وترفع بدورها مطالب محلية. والحركتان سلفيتان جهاديتان وتتعاونان مع الحركات الجهادية الأخرى وإن كانت مطالبهما محلية بخلاف القاعدة وتنظيم الدولة. ومع عدم الحسم في تموقع الحركتين في سياق التوجهات التي تعرفها الجهادية العالمية وما يطغى عليها من استقطاب بين القاعدة وتنظيم الدولة فإنه من المحتمل أن تكون الحركتان أقرب للقاعدة منهما لتنظيم الدولة، فقد سبق ان نسقتا جهودهما مع القاعدة ثم إن أنصار الدولة الإسلامية يرفضون أي نشاط جهادي في مناطقهم لا يقاتل تحت رايتهم”.

آليات المركز في السيطرة على المنطقة
لقد خرجت بلدان المغرب العربي خصوصا وشمال افريقيا عموما من فترة الاستعمار وظن رواد حركات التحرر أن التخلص من وطأة النظم الاستعمارية صار واقعاً لا يمكن المساس به . لكن جملة الأحداث التي تلت ذلك بينت أن النظام الدولي الذي تشكل غداة نهاية الحرب العالمية الثانية لا يزال يملك أوراقا للضغط والسيطرة لتحقيق مطالبه وقد تصل قدرات الضغط لديه الى درجات أكثر سوء من لحظات الاستعمار .
والأهم من ذلك ان النظام الدولي حقق تقدما شديدا في توجيه مسار الأمور في دول العربية عموما وفي دول شمال افريقيا خصوصا رغم الاختلافات الجوهرية التي تميز هذه الدول فأحداث 5 اكتوبر 1988 شهدت خروجا جماعيا للجزائريين “منتفضين ضد أحوالهم المعيشية المتردية.
طبعا سيختلف المحللون في اكتشاف أسباب “الربيع” الجزائري المبكر لكنهم لن يختلفوا في ان الفترة التي تلت هذه الهبة كانت اعادة ترتيب لبيت الجزائر كما يريده النظام الدولي حتى يعود الثائرون للحضيرة .
هذه الطريقة هي ذاتها التي اعتمدها النظام الدولي في ثورتي تونس وليبيا وحتى في الجزائر والمغرب فيما قد نسميه تحركات اجتماعية وإرادة ثورة .
ففي الوقت الذي كانت فيه “ميشيل اليو ماري” وزيرة الخارجية الفرنسية تطالب بمزيد ارسال مساعدات أمنيه الى تونس لمواجهة الثوار كانت الولايات المتحدة تجري اتصالات مع قيادات عسكرية وأمنية كبرى لايجاد مخرج مناسب من الأزمة وبالفعل رغم وصول الإسلاميين للحكم إلا أنهم لم يستطيعوا التخلص من سطوة النظام الدولي فقد كانوا مجبرين على الاستسلام لأحكام النظام الدولي والخضوع لمفاوضات مذلة مع النظام الحاكم في تونس (النهضة-حزب نداء تونس) وفي ليبيا (الثوار الموالون للإسلاميين – قوات حفتر) وفي المغرب (حزب العدالة والتنمية – وحزب الاستقلال) النظام الدولي يهتم بالأنظمة القديمة لأنها ضمانة لا رجعة فيها لشيئين أساسيين الأولى هو أنها تشاركه كل حروبه ضد الإسلاميين دون تحفظ والثاني انها تسلم ثرواتها دون عناد لدول المركز .
بل تذهب قوى المراكز في الحفاظ على الأنظمة التي “ورثت” الدول العربية إلى حسابات متطرفة أبعد من حماية رأس النظام الى حماية ما يصطلح على تسميتها بالدولة العميقة أو حكومات الظل مثل حماية الجنرال الجزائري محمد مدين المعروف ب “توفيق” أو حماية حكومة الظل في تونس التي قادها لسنوات رجل الأعمال المعروف كمال لطيف الذي بقيت الأوساط السياسية بعد الثورة في تونس رهينة لقراراته ومن الغريب ان اقالة الجنرال توفيق في الجزائر أعقبتها فترة تراجع غريبة لنفوذ رجل الأعمال كمال لطيف في تونس.
و الحقيقة ان خدمات الدولة العميقة للمركز تفوق في بعض الأحيان خدمات في رؤوس الأنظمة؛ اذ تذكر مجلة ” Le jeune Afrique ان “الجنرال توفيق سافر الى الولايات المتحدة الأمريكية في بداية شهر سبتمبر 2011 وجمعه لقاء بمسؤولين أمريكيين عرضوا أمامه معلوماتهم حول الجماعات الجهادية فرد بكل ثقة أنتم لا تعرفونهم جيدا انهم قادرون على كل شيء …وتضيف الصحيفة ان محمد مدين المعروف بكنية توفيق عرض معلومات مهمة حول امكانية تعرض الولايات المتحدة الامريكية لضربات وهو ما حصل فعلا في 11 من سبتمبر 2001 “.
هذا النموذج ينطبق تماما على تونس فرجل الأعمال كمال لطيف قادر على حماية مصالح المركز أكثر من رؤساء الحكومات وهو ما يذكره أحد المحامين (المحامي اليساري عبد الناصر العويني في أحد الفيديوهات التي حققت انتشارا خيالياً على شبكات التواصل الاجتماعي) حيث قال إن يهود جربة كان لهم حفل ختان خلال صائفة 2011 و قام بعض المراهقين التونسيين من العرب المسلمين برميهم بالحجارة وهو ما جعلهم يتصلون برئيس الحكومة الباجي قائد السبسي فنصحهم بالاتصال مباشرة بكمال لطيف الذي قام فعلا بإصدار أوامر بتأمين الحفل أمنياً وهو ما أثار اعجاب بعض السياسيين الفرنسيين الذين كانوا على علم بالحادثة .
هذه الحالات من العمق ومن التعقيد في الدول العربية تمنح للمركز نقاط قوة عديدة كما تمنحهم الوقت والخيارات العديدة في إيجاد البديل لأي نظام متهاو، لكن ما حدث مؤخراً بعد إزاحة الجنرال توفيق في الجزائر وتراجع نفوذ كمال لطيف في تونس يبين ان هناك تغيرات أكبر في المنطقة وهو ما حصل ايضا في المغرب بعد تراجع دور الرجل الذي كان دائما مقربا من الملك وهو علي الهمة .
ارتباطات بلدان المغرب العربي بالنظام الدولي لها أوجه عديدة فبينما يظهر للعيان ان علاقة هذه البلدان بالفضاء الأوروبي هي الرابط مع دول المركز يرى آخرون أن الجماعات الجهادية خصوصا في مالي وحدود الجزائر والآن في ليبيا رسمت علاقة جديدة بين منطقة شمال إفريقيا والولايات المتحدة. وهنا يمكن القول ان سياسة الولايات المتجددة التي تتبناها خلال الفترة الحالية هي تحريك قوى مثل فرنسا و روسيا للعب دور مسلح في هذه المناطق رفقة شركاء محليين مثلما حدث في مالي عندما كانت الامارات العربية والمملكة العربية السعودية شركاء فرنسا في ضرب الجماعات الجهادية التي سيطرت على تمبكتو وأغلب انحاء مالي .
ورغم الحرص على تركيز قواعد صلبة في كل بلدان شمال إفريقيا دون استثناء إلا أن “مركز” النظام الدولي يحرص على بلدان دون غيرها لاعتبارات عديدة فحسب مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى “يمثل المغرب والجزائر أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة ويرجع ذلك بشكل كبير إلى قدرتهما على استئصال النفوذ المتنامي لـ “تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي”. هذا وتتواصل الإجراءات المتخذة ضد هذه الجماعة المتطرفة في جيوب كلا البلدين وكذلك في المساحات غير الخاضعة للسيطرة في منطقة الساحل الشاسعة. بيد، غالباً ما يعبر البلدان ذاتهما عن سخطهما عندما تركز الولايات المتحدة على إدارة الأزمات بدلاً من المصالح طويلة الأجل لتحالفاتها ذات الصلة. وقد تأسس “الحوار الاستراتيجي” في أواخر 2012 – بداية مع المغرب وفي وقت لاحق مع الجزائر – باعتباره فرصة لإعادة تأكيد الالتزامات الحالية، والسماح بإبداء اهتمام دبلوماسي رفيع المستوى بالمنطقة، ومواءمة السياسات، وربما التقدم في النهاية نحو شراكات أكثر أهمية.
هذا الاهتمام بالدور المغربي جاء بعد انفراد الجزائر بتقديم خدماتها في مجال “محاربة السلفية الجهادية في المغرب العربي” فقد سبق وأقصي المغرب من “لجنة أركان العمليات المشتركة”، التي يقع مقرها في الجزائر والتي تشمل كذلك مالي والنيجر وموريتانيا. وتعول دوائر القرار الدولي على خطة ناعمة مصدرها الرباط تعنى بتأطير ديني على المنهج المالكي لأئمة مالي وكل المنطقة وذلك في إطار محاولة لاعتراض التيار السلفي. وفي الحقيقة يجمع الكثير من المتابعين على أن المغرب نجح في رسم أبعاد جديدة للصراع مع التيار الجهادي خرجت من دائرة المقاربة الأمنية إلى دائرة الفضاء الديني والحوار وفتح مجالات التعبير الديني جعل منها نموذجا ومحل اهتمام من طرف المركز كبديل للرؤية الأمنية القمعية التي اعتمدتها الجزائر.
وفي الواقع أن الفارق الرئيسي بين نهج البلدين في التعامل مع “تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي” وكل التنظيمات الجهادية “هو أن المغرب ينظر إلى «القاعدة» باعتبارها جماعة أيديولوجية بينما يراها الجزائر تنظيم إجرامي. وكلا النهجين يمثل أهمية، كما أن الأسئلة بشأن موقف المغرب لها ما يبررها. وقد يكون المغاربة قادرون على استئصال المشاركة وأعمال التجنيد المحدودة، لكن التعامل مع القيادة وروابطها بالجماعات الإجرامية، يشكل تحدياً آخر. إن عدم قدرة المغرب على تطهير حدوده من العناصر الإسلامية المتطرفة قد وفّر مادة خصبة للمشككين. وأي ضعف متصور في موقف المغرب ربما يعزز من موقف الجزائر باعتبارها “الخيار الأفضل” لشراكة مكافحة الإرهاب في المغرب العربي. وفي غضون ذلك، فإن النهج الثنائي يوفر ميزة استراتيجية للولايات المتحدة في مكافحة “تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي”، وينبغي على واشنطن مواصلة العمل بشكل منفصل مع كل بلد.”
والاهتمام الأمريكي بالمنطقة ليس منعزلا عن بقية دوائر النظام الدولي ففي أواخر 2013، أعلنت فرنسا عن إعادة تنظيم قواتها العسكرية في الصحراء والساحل على نحو يتيح تواجداً إقليمياً أكثر قوة رداً على قوة التنظيمات الجهادية. وتدخلت فرنسا مباشرة من خلال عمليات في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. وكانت الولايات المتحدة خلفها عبر توفير المساعدات اللوجستية وهي طريقة أصبحت تحبذها الولايات المتحدة أكثر من غيرها فهي تقدم شركاءها في النظام الدولي نحو القضايا وتكتفي حاليا بالمساعدات العسكرية والتدخل المحمي بقفازات مثل الضربات الجوية وتمويل المليشيات.
ولكي نكون منصفين فإن أغلب المحاولات لتوحيد المنطقة تحت مسميات عديدة فشلت بسبب غياب إرادة سياسية بين مختلف الأطراف إن لم يكن جميعها ومن أكثر الأمور إثارة للسخرية في هذا الباب ان الرئيس التونسي السابق محمد المنصف المرزوقي بادر بمحاولة لتوحيد المغرب العربي بعد توليه السلطة وعمل على تقريب وجهات النظر بين الجزائر والمغرب لكنه بعد مدة وجد نفسه منعطفا خلف المغرب بعدما اثير حديث واسع في تونس حول الدور الجزائري في دعم حزب نداء تونس على حساب الاطراف التي أفرزتها انتخابات سنة 2011.


العلاقات مع الدول العربية
في 24 أوت 2015 كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أن مصر والإمارات العربية المتحدة شنتا غارات جوية مشتركة ضد كتائب إسلامية دعما لللجنرال خليفة حفتر وفي الحقيقة لم يكن هذا أول دور للإمارات في شمال إفريقيا فالحملة الفرنسية على مالي قد حصلت بفضل حماس كبير من الإمارات لتمويل هذه الحرب كما أن أحاديث الكواليس في تونس تذكر منذ زمن تمويلات إماراتية لأحزاب وجمعيات مقربة من النظام القديم للعودة إلى الحياة السياسية. طبعا في مقابل النشاط الإماراتي تعمل دول أخرى مثل قطر على ترتيب تغييرات سياسية عميقة يكون للإسلاميين فيها دور أكبر وهو ما يدفعها للوقوف إلى جانب طرح الثورات.
مشكلة مثل هذا التدخل العربي أنه ليس مبنيا على قراءة واقعية للوضع داخل بلدان شمال إفريقيا خصوصا عندما يتعلق الأمر برؤية الإمارات التي تحاول اجترار أطروحات كشفت الثورات والحراك الإجتماعي في المنطقة فشله كما أن هذا الطرح الإماراتي ملتزم بدقة بشروط النظام الدولي حتى تلك القاسية منها مثل مساندة العلمانيين المتطرفين. وفي اجتهادات قطر لصنع رؤية تتماشى مع ما تشتهيه الشعوب هناك أيضا التزام كبير بشروط النظام الدولي قد يكون التزاما أقل بكثير من التزام الإمارات لكن الملاحظ في عمل القوى العربية الفاعلة هو عدم سعيها إلى الاستفادة من الفراغات التي يتركها النظام الدولي.
ولعل السعودية هي أول المعنيين بهذا الكلام فباستثناء المغرب التي تربطها علاقة جيدة بكل دول مجلس التعاون تغيب المملكة عن بقية المناطق فكان الجميع ينتظر دورا أكبر لها في تونس بعد الثورة لكن الرياض حضرت بالغياب في لحظات كان لها أن تلعب أدوارا تاريخية. والحقيقة إن تقاليد السياسة في دول الخليج العربي لا تزال بعيدة عن شمال افريقيا بسبب قطيعة خلفتها الأنظمة العلمانية الاستبدادية؛ كما أن المملكة بقيت ترى هذه المناطق بعيدة جدا ليس جغرافيا فقط بل سياسيا واجتماعيا؛ لذلك فإن غياب الاهتمام انعكس حتى في الزيارات النادرة للقيادات السعودية فمثلا لم يزر الملك السعودية تونس أو الجزائر منذ سنوات وحتى كبار الوزراء كانت علاقاتهم برؤوس الأنظمة وغابت فيها الرؤية المستقبلية للعلاقة مع شمال إفريقيا.
لكن عموما يصر المتابعون للشأن الإسلامي على غياب الحماس من الدول الإسلامية الكبرى لتدعيم تواجدها في شمال إفريقيا أو اعتمادها على العلاقات الرسمية وهي طريقة سهلة لكنها غير مجدية في المناطق التي تشهد مناخا سياسيا متقلبا.

خلاصة القول
الولايات المتحدة متفائلة جدا بالقوى العلمانية في العالم العربي والإسلامي وهذا تترجمه أبحاث الفاعلين الرئيسيين في واشنطن وهي ترى أن هذه المجموعة -أي الفاعلين السياسيين من غير الإسلاميين والأنظمة القديمة- “ضرورية لتقدم دول الشرق الأوسط نحو أنظمة حكم أكثر تسامحاً وتعددية. وبالتالي، يعتبر «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» أن مراقبة هذه الأفكار، والقدرة التنظيمية، والدعم المحلي والأجنبي لهذه الجهات تشكل نشاطاً منتجاً. وسوف يقدم المعهد سلسلة من الدراسات العلمية، سيتم نشرها على مدى الأشهر الـ 18 المقبلة، تطرح مستويات متفاوتة من التفاؤل حول آفاق القوى غير الإسلامية وغير الدكتاتورية في المنطقة. ومما لا يثير الدهشة أن معظم المساهمين بعيدون كل البعد عن التفاؤل الذي أبداه الكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» جاكسون ديل، الذي كتب في 27 نيسان/أبريل 2015:
وفي هذه المرحلة الحرجة من العملية الانتقالية، وبعد مرور عقود من الزمن وإنفاق ملايين الدولارات الأمريكية على مشاريع إرساء الديمقراطية، كان المرء يأمل لو أن عدد الليبراليين الديمقراطيين في الشرق الأوسط أكثر مما هو عليه الآن. ولكن للأسف، في معترك الأفكار اليوم – وفي السياسة الانتخابية – تلك المجموعة من الناس قليلة العدد في معظم البلدان العربية. ولكن على الرغم من جميع الخلافات التي قد تكون للأمريكيين مع المجموعة الأكبر من العرب غير الإسلاميين الذين يميلون إلى التعددية، يستحق هؤلاء الفاعلون دعم الولايات المتحدة. لقد بدء هؤلاء بالتنافس سياسياً مع الإسلاميين والاستبداديين، مع أنهم يعانون من عجز جدي ولكن ربما ليس من غير الممكن تخطيه. فكما حصل إبان التطورات في تونس، تكمن مصلحة الولايات المتحدة الفضلى في تماسك هؤلاء الفاعلين غير الإسلاميين على الأقل في أماكن أخرى في الشرق الأوسط.”
غير أنه لا بد من الاعتراض على مركز النظام الدولي تجاه القوى العلمانية بأن نتائج الانتخابات التي حصلت في كل دول شمال إفريقيا تنفي قطعيا ما توصلت إليه المخابر الأمريكية ويكفي التذكير بأن معهد واشنطن لدراسات الشرقى الأدنى كان قد “تكهّن” قبل انتخابات تونس 2014 بأن الجبهة الشعبية اليسارية ستكون الأولى في الانتخابات بعدد مقاعد كبير غير أنها لم تحصل إلا على المرتبة الرابعة بـقرابة 15 مقعدا من جملة 212 إلى جانب فوز الإسلاميين في -وهم تحت القصف الدولي والمحلي- بالمرتبة الثانية بجملة 80 مقعدا. والأمر ينطبق على المغرب التي عرف فيها حزب العدالة والتنمية صعودا صاروخيا أطاح بحزب الاستقلال “حزب الملك” وحزب الأصالة والمعاصرة أكثر الأذرع العلمانية تأثيرا في البلاد.
إلى جانب ذلك فإن تنامي الحراك الجهادي في المنطقة الذي قفز من ثلاث أو أربع جماعات متفرقة بين الصحراء وجبال الجزائر إلى عشرات الجماعات المتفرقة بين ليبيا وتونس والجزائر ومالي يجعل من السيناريوهات الأمريكية مجرد قراءات لا يدعمها الواقع. خصوصا وأن الأنظمة -ربما باستثناء الرباط- تعيش فترات صعبة لأسباب متفرقة في الظاهر لكن في الباطن هناك حقيقة واضحة وهي أن التدخل الذي فرضه النظام الدولي عبر العقود الماضية جعل من شمال إفريقيا كما بقية دول العالم العربي والإسلامي بشكل عام مناطق هشة تفتقد إلى إرادة الإصلاح .
* كما أن الأفق السياسي الفاشل وسياسات التغريب من طرف الحكومات التي تتبنى الطرح العلماني الفرنسي المتطرف دفع بالمجتمع إلى إفراز تيارات جهادية عديدة وتصدير الأفراد إلى مناطق إسلامية أخرى ومع تواصل سياسة الحوار والعودة للفضاء العربي الإسلامي تتزايد حدة الصراع بين التيارات العلمانية المنبتة والحركات الإسلامية بمختلف أنواعها.
* هناك اتفاق على أن قضية الصحراء الغربية هي حجر أساس في تحديد العلاقة بين المغرب والجزائر والعزف على أوتار هذا المشكل تجعل من المنطقة مرتعا لكل أنواع الأطماع الأجنبية حيث يعتمد “مركز القرار الدولي” على الخلاف في تحسين شروط تواجده في كل بلدان شمال إفريقيا.
* تواصل انقسام الأطراف العربية وسعي الإمارات العربية إلى إعادة رسكلة الأنظمة القديمة يعطل مسيرة التخلص من الوصاية الأجنبية على المنطقة ويؤجل التقارب الإسلامي في المنطقة ويخدم مصالح إيران وحلفائها.
* وكما أشرنا سابقا فإن غياب الحماس من الدول الإسلامية الكبرى لتدعيم تواجدها في شمال إفريقيا أو اعتمادها على العلاقات الرسمية وهي طريقة سهلة لكنها غير مجدية في المناطق التي تشهد مناخا سياسيا متقلبا. لذلك فإن استمرار عزلة شمال إفريقيا عن محيطها العربي السني يعزز دور إيران التي وجدت في استئثارها بالنشاط الأهلي والجمعياتي ضالتها وسيطرت على عدة منافذ مهمة في السياسة والاقتصاد والإعلام.

إرسال التعليق