مدخل إلى علم الاستشراف: الخطوة الأولى حتى تتخلص الأمة من تهافت القوى الإقليمية والعالمية

مدخل إلى علم الاستشراف: الخطوة الأولى حتى تتخلص الأمة من تهافت القوى الإقليمية والعالمية
بقلم عمار عبيدي*

تطرح القضايا الإسلامية الراهنة سؤالا مهما وجوهريا يعرفه الجميع وهو سؤال “كيف نخرج الأمة من وضع الوهن؟” ولعل السؤال الذي يعتبر أشد دقة وقربا من الواقع “ما هي الخطوة الأولى للخروج من حالة الوهن؟”
فهل استعدت الأمة لأسئلة كبيرة من قبيل ما هي الحلول لصد المد الصفوي العارم؟ وما هي الحلول للخروج من تحت وطأة النظام الدولب؟ بل وحتى الحلول الاقتصادية فهل طرحت الأسئلة حول نفاذ النفط ونضوب الموارد المائية وغيرها؟
كل هذه الأسئلة مركزية وفي عمق الهم المجتمعي اليوم، وهي تتعلق بمجال علمي يعرف بعلم الاستشراف ويعرفه الدكتور ميشيل غودي في احدى محاضراته “ان المستقبل تتم التحضير له رغم انه ليس مستقبلا واحدا بل هو يكون في الحاضر عددا من الافتراضات… بل ان الحاضر هو عدد من الأزمان المختلفة:
-حاضر الماضي: الذي يكون مرتبطا بما حصل في الماضي يعني تأثير الماضي فيه عميق
– وحاضر الحاضر: وهو الزمن الذي بدأ يتخلص من مخلفات الزمن الماضي
– وحاضر المستقبل: وهو الزمن الذي بدأت تنضج فيه لبنات البناء للمستقبل”
والحقيقة أننا في عالمنا الإسلامي لا نعيش سوى زمن واحد لا غير وهو زمن الحاضر الماضي حيث نمكث مدة طويلة تحت صدمة الماضي وأثره ونحاول المحافظة على توازن الحاضر فقط؛ فأسمى أمانينا هو بقاؤنا متماسكين في زمن الحاضر الحاضر.
ويؤكد الدكتور ميشيل غودي في شرحه لمهام علم الاستشراف “على ضرورة حسن طرح الإشكاليات واختيار التمشي وتحليل الفاعلين وأدوارهم ثم استثمار فرص وإمكانيات النجاح والحل ثم التقليص من الغموض او فرص الفشل”. وهذا يقتضي حسب الباحثين في علم الاستشراف طرح أسئلة كثيرة في بداية العمل في مقدمتها:
من نحن؟
ماذا يمكن ان يحدث؟ ماذا يمكن ان نفعل تجاه ذلك؟
ويساعد حسن طرح المشكل والأسئلة إلى جانب تحديد التوقيت المناسب لكل فعل في تحديد الآليات اللازمة للعمل جيدا والطرق المناسبة لاعتراض الطوارئ وتحديد خطط المستقبل بدقة.

النبوؤة والاستشراف
السؤال الذي قد يتبادر للذهن الان هو؛ هل الاستشراف قرين و مرادف “التنبؤ”؟ ان التاريخ الاسلامي يعرض بشكل واضح الفرق الجلي بين النبوءة التي اختص بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي أتت على معنيين أساسيين؛ الأول نبوءة عامة ذكرت اخبار الألوهية ومتطلبات الايمان ومحاذير الوقوع في الكفر بينما تخصص جزء آخر من الرسالة المحمدية الخالدة في الاخبار عن الأزمان القادمة في شكل نبوي قريب من الاستشراف لكنه ليس قابلا لهامش ولو بسيط من الخطأ باعتباره خبرا إلاهيا لا يأتية الباطل.
وهذا هو عمق الاختلاف العلمي والمنهجي بين علم الاستشراف البشري وبين النبوءة التي هي رسالة سماوية تأتي لإخبارنا بحدث سيقع لا يحتمل حسابات الخطأ والصواب وليس بالضرورة مرتبطا بالماضي والحاضر بل هو قدر إلاهي ويبرز هذا المعنى في أحاديث مثل ” روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله، قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.
فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت.
“زيادة على ذلك فان الاستشراف كعلم اجتماعي قائم على القراءة الموضوعية للحاضر ورسم خطط ممكنة للمستقبل ليس متعلقا بالجانب العقدي ولا مرتبطا بأحكام شرعية بل هو محاولات جادة لتأمين المجتمع من الهزات المفترضة ومحاولة لاصطياد فرص النجاح في الجوانب الحياتية اليومية .
وهذا لا يعني تحييد هذا العلم عن الدين مثلما تدعي ظلالات الرؤى العلمانية للواقع بل يمكن تفعيل جدوى هذا العلم من خلال فهم النصوص الشرعية والاستفادة من نظرة النبوءة للمستقبل زيادة على أن الاستشراف يهتم أساسا بقيمة التنمية المستدامة التي هي من أوكد المهمات الانسانية التي نصت عليها الشريعة.
فحديث النبوة عن مركزية الجهاد ضد العدو في الأمة هو قيمة ثابتة تجعل من الباحثين في علم استشراف المستقبل ملزمين بالتقيد بهذه النظرة وحساب جدوى هذه القيمة (قيمة الجهاد) في تحديد ملامح المستقبل.

الاستشراف هل هو موجود؟
المهم أن ندرك اليوم أن العالم الاسلامي لا يخلو من محاولات قطرية لوضع خطط مستقبلية تحت عناوين متعددة وكثيرة منها التنموية ومنها الشبابية …
لكن هذا الوعي بضرورة الاستعداد للمستقبل مفرغ من أساسياته العلمية ومناهج التحليل المنطقية وبعيد عن الدراسة العقلانية الجادة والصارمة. فمن المسلم به ان الاستشراف يقوم على دراسة الحاضر والاستفادة من تجربة الماضي وتحسس طريق المستقبل لوضع خطط وخطط بديلة في مواجهة كل ما هو متوقع.
غير ان الأمة ليس لها من مراكز البحث الجادة ما يسمح لها بوضع أسس جادة لفكرة الاستشراف وانما تتحايل الانظمة على الشعوب من خلال مخططات بأهدافها سياسوية لا علاقة لها بالعلمية بل بنيت قصد مزيد التمكين لرؤية الحاكم الفلاني والملك العلاني.

* صحفي وباحث تونسي

حمل مقال الاستشراف بنسخة وورد

إرسال التعليق