استعراض القيصر.. و”الحرَج الثوري”
في السادس عشر من أغسطس الجاري، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن شنّ قاذفات استراتيجية روسية هجمات ضد مواقع المعارضة السورية المسلحة. أحدث انتشار هذا الخبر تأثيرًا في الداخل الإيراني أكبر بكثير من تأثير القنابل التي أُسقِطت في تلك الغارات على محافظات حلب ودير الزور وإدلب؛ التي قال البيان إنها استهدفت مواقع لتنظيم “دولة الاسلامية” وتنظيم “فتح الشام” الذي كان يُعرف باسم “جبهة النصرة”، فالسماح لروسيا بنشر قوات على الأراضي الإيرانية مخالفة صريحة للدستور الإيراني، وضربة موجعة لمزاعم السيادة المتجذّرة في ثقافة الثورة، والثقافة الإيرانية بشكل عام.
لم يجرؤ تحالف “الحرس الثوري” -مؤسَّسة “بيت القائد” الحاكم في إيران- على الدفاع عن هذه الخطيئة في الداخل الإيراني لاعتبارات كثيرة، فقرَّر بعد تخبُّطٍ استمرّ لأيام، الإعلان من جانبه عن انتهاء المهمَّة. كان عدد من النُّوَّاب في مجلس الشورى قد طلب استجواب وزير الدفاع حول الموضوع، وكانت الانتقادات اللاذعة للنظام في مواقع التواصل الاجتماعي تنتشر كالنار في الهشيم.
بدا الارتباك واضحًا في تصريحات المسؤولين الإيرانيين، وتضاربت المواقف بين من يَعِدُ بتوسيع التعاون مع روسيا إذا اقتضت الحاجة، وتوجيه انتقادات لاذعة إلى وزارة الدفاع الروسية التي كشفت المستور.
“يتصرَّف الروس كالصِّبية المتعجلين لإظهار القوة”، هكذا يوحي تعليق وزير الدفاع الإيراني على القناة الثانية الإيرانية. ربّما لا يعرف الروس الحكمة الإيرانية البهائية التي تقول: “استُر ذهبَك، وذهابَك، ومذهبَك”. حجم الاستياء الإيراني من “الحليف” الروسي يكشف حجم الأذى والضرر، بخاصة ذلك الذي لحق بالقوة الناعمة، والصورة.
استهجن الإيرانيون المفارقة التاريخية الصارخة التي انطوى عليها الحدث، فبينما ظلّ الثوريون يَعيبون على الشاه أنه كان ألعوبة بيد الولايات المتحدة، فإنهم اقترفوا خطيئة لم يقترفها، ولم يكُن ليفعل لو أتيح له البقاء. فالوجود الأمريكي في إيران في عهده اقتصر على بعض المستشارين العسكريين وبعض مواقع التنصت في شمال شرق البلاد لمراقبة الاتحاد السوفييتي، ولم يسمح الشاه قَطّ للقوات الأمريكية والقاذفات الأمريكية بالوجود على أرضه، أو توجيه ضربات انطلاقًا منها.
الحقيقة المُرَّة التي واجهها خامنئي ولم يتمكن من تبريرها، هي أن روسيا أول دولة أجنبية تنفّذ عمليات عسكرية مُعلَنة انطلاقًا من الأراضي الإيرانية منذ الحرب العالمية الأولى، وأن العلاقة التي تجمع بين البلدين ليست ندّية كما كان يتغنّى في خطاباته، وأن التحالف الاستراتيجي المزعوم لم يخرج في حقيقته عن علاقة الصغير بالكبير، والتابع بالمتبوع.
في سوريا كان للنبأ وقعٌ آخر، فقرار إيران السماح لروسيا باستخدام قواعدها الجوية لدعم العمليات العسكرية هناك -ولو بشكل مؤقَّت- هو إقرار بالعجز عن مواجهة المعارضة السورية، ونهاية حزينة لمزاعم القدرة على الحسم الميداني.
بالنسبة إلى القيصر، أهمية استخدام القواعد الإيرانية تتجاوز المزايا التكتيكية في الحرب ضدّ المجموعات السورية المسلَّحة، فهو جزء من خطة أوسع للتحكُّم في ما كان يُعرف بـ”محور المقاومة”، وتوظيفه كأداة لتعزيز النفوذ السياسي لموسكو في الشرق الأوسط، ورفع أسهمها في خريطة توزيع القوة العالمية.
صرّح بعض المسؤولين الأمريكيين بأنهم لم يُفاجَؤُوا بالتعاون العسكري الروسي-الإيراني. إلّا الأمر في الحقيقة بدا مُربكًا لهم. ربما لم يكُن لديهم معلومات أكيدة حول نِيَّة الكرملين من هذا التحرّك. ما يؤكِّد ذلك تصريح نائب المتحدث الرسمي في الخارجية الأمريكية مارك تونر: «أعتقد أننا لا نزال نحاول تقييم ما يفعلونه بالضبط».
وبينما شرع أوباما في لَمْلمة أوراقه استعدادًا للدخول في مرحلة كتابة المذكرات، والبحث عن عروض دور النشر الأمريكية، وضعه هذا المستوى الجديد للعلاقات بين روسيا وإيران أمام حقيقة أنه ارتكب خطأً استراتيجيًّا كبيرًا حينما عارض إنشاء مناطق آمنة في سوريا، وامتنع عن التدخل، وفتح الباب على مصراعيه للروس في المنطقة.
إرسال التعليق